إعلان أفقي

الأحد، 1 سبتمبر 2013

رد الجويني استدلال القاضي بالإجماع على أن حد المحصن الرجم بدون الجلد

Posted by mounir  |  at  سبتمبر 01, 2013


أولا: صورة المسألة

يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى اختلاف الأصوليين في جواز حذف الراوي لبعض الحديث أثناء روايته له، ويكتفي برواية بعضه فقط[1].
فالجمهور ومنهم القاضي والإمام على جواز ذلك من العارف إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه، بحيث لا يختل البيان، ولا يختلف المعنى بتركه[2].
ومن الأمثلة التي ضربها الجويني لتقريب صورة هذه المسألة، الأخبار الواردة في حد الزاني المحصن، بين من يقول بالرجم دون الجلد، وبين من يجمع بين الأمرين معا، حيث أنكر عل القاضي ادعاءه الإجماع على الاكتفاء بالرجم دون الجلد.

ثانيا: الأحاديث محل النزاع

الأول: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»[3].
الثاني: حديث أبي سعيد[4] رضي الله عنه، أن رجلا من أسلم يقال له ماعز بن مالك، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه علي، فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، قال: ثم سأل قومه، فقالوا: ما نعلم به بأسا، إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد. قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلمن فأمرنا أن نرجمه. قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد. قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم والمدر والخزف، قال: فاشتد واشتددنا خلفه، حتى أتى عرض الحَرّة، فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرة ( يعني الحجارة )، حتى سكت ...» الحديث[5].

ثالثا: محل الخلاف في الحديثين

دل حديث عبادة ابن الصامت بصريح العبارة على وجوب الجمع بين الجلد والرجم في حد الزاني المحصن، بينما جاء في قصة ماعز ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالرجم دون الجلد، فليس في سياق القصة ما يدل على أنه أمر بجلده قبل الرجم.
وبناء على ذلك اختلف العلماء في حد الزاني المحصن، بين من عمل بحديث عبادة، وهو قول علي رضي الله عنه[6]، وهو مذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر وغيرهم. وبين من قال: لا يجمع بين الجلد والرجم، لأن حديث عبادة منسوخ بقصة ماعز والغامدية[7] واليهوديان[8]، فإنه صلى الله عليه وسلم رجمهم ولم يرو أنه جلدهم، وهذا مذهب الشافعي[9] ومالك وأبي حنيفة والجمهور[10].

ثالثا: مذاهب العلماء في المسألة

أ – رأي القاضي
ذهب القاضي إلى تأكيد ما ذهب إليه الشافعي من وجوب الاكتفاء بالرجم دون الجلد بالإجماع المنعقد على ترك الجلد، وقد حكى عنه هذا الرأي إمام الحرمين فقال: «قال القاضي: ما ذكره الشافعي يتأكد بالإجماع على ترك الجلد، ...، ثم قال القاضي: وما أرى الحديث الأول – أي حديث عبادة بن الصامت – إلا هفوة، فإن من يقتل بالأحجار أي معنى لجلده مائة، وهو يدق بالأحجار إلى الموت؟ فلعل الراوي سمع الجلد في البكر فاطرد على ذكره في الثيب، ولا نهاية لمواقع إمكان الغلطات في الروايات»[11].
ب – رأي الجويني
أنكر إمام الحرمين على القاضي ما ادعاه من إجماع على ترك الجلد والاكتفاء بالرجم في حد الزاني المحصن، فقال:« وليس ما ذكره القاضي مسلما، ففي السلف من يجمع بين الجلد والرجم »[12].

رابعا: الموازنة بين الرأيين

قبل الخوض في اختيار الرأي الأقرب إلى الصواب، يجب أولا التنبيه على أن الإجماع المذكور في الباب إنما هو خاص بإثبات حد الرجم أصلا على الزاني المحصن، لعدم ورود الرجم في القرآن الكريم، وقد ثبت إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك من لدن الصحابة وأئمة الأمصار، وخالف الخوارج و بعض المعتزلة، قال ابن عبد البر:« وأهل السنة والجماعة مجمعون على أن الرجم من حكم الله عزوجل على من أحصن»[13]. وقال أيضا: «وأجمع فقهاء المسلمين وعلماؤهم، من أهل الفقه والأثر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا أن المحصن حده الرجم»[14]. وقال ابن حجر:«قال ابن بطال: أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة، واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن»[15].
فالإجماع المذكور هنا خاص بإثبات حد الرجم لا غير، ولا يمكن الاستدلال به على نفي الجمع بين الرجم والجلد في آن واحد، وعليه فإن ما قرره الإمام في هذا الباب هو الصواب، فالخلاف ثابت بين السلف، والإجماع منقوض بخلاف علي رضي الله عنه والإمام أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر، ولا يجوز ادعاء الإجماع بمخالفة واحد منهم فكيف إذا اجتمع قولهم على خلاف ما ادُّعِي الإجماع فيه. والله أعلم.


[1]  - أنظر هذه المسألة في التلخيص 2/400، والبرهان 1/422، والمستصفى 1/168، وفواتح الرحموت 2/169-170، والبحر المحيط 4/361، وشرح النووي على مسلم 1/49، وشرح الكوكب المنير 2/556.
[2]  - أنظر المصادر السابقة.
[3]  - أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب حد الزنى برقم: 1690، وأخرجه غيره.
[4]  - أبو سعيد الخدري (74 هـ) الصحابي الجليل، والإمام المجاهد مفتي المدينة، سعد بن مالك بن سنان، استشهد أبوه مالك يوم أحد، وشهد أبو سعيد الخندق، وبيعة الرضوان، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأكثر وأطاب، وعن أبي بكر وعمر وطائفة ( أنظر سير أعلام النبلاء 3/168 ).
[5]  - رواه البخاري مختصرا في كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست، أو غمزت، برقم: 2824، ومسلم في كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم: 1694، واللفظ لمسلم.
[6]  - أنظر الروايات في هذا عن علي رضي الله عنه في فتح الباري 5/119.
[7]  - رواه مسلم، في كتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، برقم: 1695.
[8]  - رواه البخاري، في كتاب الحدود، باب: أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، برقم: 6841. ومسلم في كتاب الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، برقم 1699.
[9]  -  قال الشافعي في الرسالة 2/295: «ثم رجم رسول الله ما عزا ولم يجلده، وامرأة الأسلمي ولم يجلدها، فدلت سنة رسول الله على أن الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين ».
[10]  - أنظر القوانين الفقهية ص: 304، وفتح الباري 5/119، وزاد المعاد 5/16، وسبل السلام 4/8.
[11]  - البرهان 1/424.
[12]  - البرهان 1/424.
[13]  - الإجماع لابن عبد البر ص: 287.
[14]  - الإجماع لابن عبد البر ص: 287.
[15]  - فتح الباري 5/118.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى