أولا: صورة المسألة
وردت عدة أحاديث في صفة صلاة الخوف، من
بينها:
1 – حديث صالح بن خوات[1]، عمن
صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: «أن طائفة من
أصحابه صلى الله عليه وسلم صفَّت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم
ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى،
فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثَبَت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم»[2].
تنبيه:
هذه الصفة نفسها رواها البخاري[3]،
ومسلم[4]،
والبيهقي[5]، عن
صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، كما وردت في رواية للبيهقي[6] وابن
مندة عن صالح بن خوات عن أبيه، وأبوه هو خوات بن جبير[7]-[8]، قلت: وقد أشارت
رواية الشافعي في "الرسالة" إلى التصريح باسم الصحابي المبهم في الحديث،
حيث قال: عن صالح بن خوات، عن أبيه خوات بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم[9].
كما روى قريبا من هذه الصفة مالك عن
القاسم بن محمد عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة موقوفا[10]،
وستتم الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها من اختلاف مع هذه الصورة في تنبيه آخر
سنفرده في نهاية عرضنا للمذاهب في هذه المسألة.
وقد نبهت على ذلك لكي لا يختلط الأمر
على الناظر في كتب الفقه، حيث إن بعضهم يرجح هذه الصفة بنسبتها إلى سهل بن أبي
حثمة، وبعضهم بنسبتها إلى خوات بن جبير، ولا فرق بينهما.
2 – حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:«
غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قِبل نجد، فوازينا العدو فصاففناهم،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة
على العدو، وركع رسول الله صلى اله عليه وسلم بمن معه، وسجد سجدتين، ثم انصرفوا
مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة،
وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين»[11]. قال
ابن حجر مبينا صفة هذه الصلاة المروية عن ابن عمر رضي الله عنهما:« لم تختلف الطرق
عن ابن عمر في هذا، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في مرة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا
على التعاقب، وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة ...» [12].
هذا وقد ورد في كيفية صلاة الخوف صفات
كثيرة[13]،
اختلف في تحديد عددها إلى عدة أقوال، فقال ابن رشد:«والمشهور من ذلك سبع صفات»[14]،
وقال ابن العربي:« روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا
وعشرين مرة، المتشابه منها ست عشرة مرة، والصحيح منها ما نذكره الآن»[15]، ثم
ذكر منها خمس روايات. وقال النووي:«جاءت صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم
ستة عشر نوعا»[16].
قال ابن حجر:«قال صاحب الهدى:
"أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة
جعلوا ذلك وجها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة"
اهـ. وهذا هو المعتمد»[17].
ونحن هنا لا يعنينا استحضار تلك
الروايات، وتحريرها، وتحقيق مذاهب العلماء فيها، لأن ذلك سيخرجنا عن المقصود، لذلك
سنكتفي بالمراد من البحث، وهو بيان وجه اختلاف كل من الإمام والقاضي في ترجيح إحدى
الروايتين اللتين ذكرتهما، لأنهما محل النزاع بين الإمامين هنا.
ثانيا: مذاهب العلماء في المسألة
أ – مذهب القاضي
ذهب القاضي فيما حكاه عنه الإمام في
"البرهان" إلى ترجيح رواية ابن عمر رضي الله عنهما على غيرها، واحتج
قائلا:«إنها ناقلة[18] عن
المألوف في القواعد، فيجب حملها على تثبت الناقل، والرواية الأخرى ليست كذلك، وقد
يشعر بعدم التثبت وبناء الأمر مطلقا على ما عهد في الشرع»[19].
وممن قال بهذه الصفة: أشهب عن مالك
وجماعة[20].
وأبو حنيفة[21]، ورجحها ابن عبد البر على
غيرها لقوة الإسناد، وموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه[22].
ب – مذهب الإمام
ذهب إمام الحرمين في
"البرهان" إلى تجويز ما اشتملت عليه الروايتان، والعمل بهما[23]،
فإعمالهما أولى من إهمال إحداهما، لما قرره قبل ذلك من كلام القاضي في كون الفعل
إذا تعدد مع التقدم والتأخر، محمول على جواز الأمرين، ما لم يكن في أحدهما ما
يتضمن حظرا[24].
وهذا اختيار الكثير من الأئمة منهم:
الإمام احمد[25]، وابن العربي المعافري في
كتاب" القبس"[26]. قال
الخطابي:« صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة، بأشكال متباينة، يتحرى
فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى»[27].
وقال ابن رشد: «وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة، وأن للمكلف أن يصلي أيتها
أحب»[28].
بينما رجح في "نهاية المطلب" رواية صالح بن خوات، لكثرة
الرواة من جهة، وموافقة ما تقرر في قواعد الصلاة من جهة أخرى، وقال:«والترجيح من
المسالك المقبولة في تقديم رواية على رواية»[29].
ج –مذهب من رجح رواية صالح ابن خوات ( حديث سهل بن أبي حثمة )
رجح هذه الكيفية مالك والشافعي[30]
وأحمد وداود لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب، مع تجويزهم
الكيفية التي في حديث ابن عمر، ونقل عن الشافعي أن الكيفية التي في حديث ابن عمر
منسوخة. وظاهر كلام المالكية[31] عدم
إجازة الكيفية التي في حديث ابن عمر[32].
وقد رجحها أيضا: القاضي عبد الوهاب[33]،
والجويني في "نهاية المطلب" كما ذكرنا، وابن قدامة[34]،
وحكاه ابن العربي عن مالك[35]، لما
فيه من الشبه بمعنى كتاب الله.
قال الشافعي:« ورويت أحاديث عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، حديث صالح بن خوات أوفق ما يثبت منها
لظاهر كتاب الله عزوجل، فقلنا به»[36].
تنبيه:
نسبنا اختيار هذه الصفة إلى كل من مالك
والشافعي رضي الله عنهما لموافتها لما ذهبا إليه على الإجمال، وإن كان هناك اختلاف
يسير في الصفة المختارة عند الإمامين، ذلك أن الشافعي اختارها كما وردت في حديث
صالح بن خوات المرفوع وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى الركعة بالطائفة
الثانية لم يسلم، وانتظرهم حتى فرغوا من الصلاة، فسلم بهم.
في حين اختار مالك أن يسلم الإمام بعد انتهائه من الركعة الثانية مباشرة،
ولا ينتظر الطائفة الثانية حتى تفرغ من الصلاة، لحديث القاسم بن محمد عن صالح بن
خوات أن سهل بن أبي حثمة حدثه - بمثل هذه الصفة وفيها – ثم يقبل الآخرون الذين لم
يصلوا فيكبرون وراء الإمام، فيركع بهم الركعة ويسجد، ثم يسلم، فيقومون
فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون[37]. قال
مالك: «وحديث القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات أحب ما سمعت إلي في صلاة الخوف»[38].
هذا الذي آثرنا ذكره من المذاهب، على
أن هناك أقوال أخرى في المسألة تستقصى من كتب الفقه التي أشرنا إليها في الهوامش
وغيرها، ففيها تفصيل أكثر.
ثالثا: الموازنة بين المذاهب
من خلال تتبع أدلة العلماء وأقوالهم المنسوبة إليهم
في صفة صلاة الخوف، يتبين والله أعلم أن رأي من قال بجواز ما صح من هذه الصفات
جميعا هو الأرجح والأقرب إلى الصواب، لما فيه من التوسعة والتخفيف على الأمة، خاصة
في هذا الموقف العصيب، فأفعال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تعددت محمولة على جواز
الأمرين ما لم يكن في أحدهما حظر.
[2] - رواه البخاري في كتاب المغازي ، باب: غزوة ذات
الرقاع، برقم 4129، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، برقم
842، واللفظ لمسلم.
[8] - خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري ( 40 هـ
): أخو عبد الله بن جبير البدري الذي كان
أمير الرماة يوم بدر. أول مشاهده أحد، توفي بالمدينة سنة 40 هـ، وعمره 74 سنة،
وكان يخضب، وكان ربعة من الرجال ( أنظر سير أعلام النبلاء 2/329، وفتح الباري
7/422 ).
[10] - رواه مالك في الموطأ، في كتاب صلاة الخوف،
باب: صلاة الخوف، ص: 117، وسيأتي طرف منه بعد قليل في ص: 237.
[11] - أخرجه البخاري في كتاب صلاة الخوف الخوف، باب:
صلاة الخوف، برقم: 942، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الخوف، برقم:
839.
[18] - في المطبوع "نافلة" وهذا لا يستقيم
به المعنى، وقد أشار المحقق في الهامش إلى أن إحدى المخطوطات فيها:
"ناقلة" وهو الصواب الذي كان على المحقق إثباته والله اعلم.
[31] - أنظر كلام المالكية في: الإشراف على نكت مسائل
الخلاف 2/31، والتلقين 1/133، والمعونة 1/171، والقبس 1/375، والذخيرة 2/437.
[37] - رواه مالك في الموطأ موقوفا على سهل بن أبي
حثمة، في كتاب صلاة الخوف، باب: صلاة الخوف، برقم: 442، ص: 117.
0 التعليقات: