أولا: صورة المسألة
إذا صلى العبد في أرض أو دار مغصوبة،
فهل صلاته صحيحة أم فاسدة، وعلى القول بالصحة أو الفساد، هل تجزئه صلاته وتبرأ بها
ذمته ولا يؤمر بالإعادة، وبالتالي فإنه غير مطالب بها يوم القيامة، فيكون الفاعل
بذلك مطيعا من وجه عاصيا من وجه، حيث يحصل على أجر الصلاة مع ما يلحقه من إثم
الغصب لانفكاك الجهة، أم أنها لا تجزئه، وعليه أن يعيد الصلاة مرة أخرى.
ثانيا: سبب الاختلاف في هذه
المسألة
يرجع سبب الخلاف في الصلاة في الأرض
المغصوبة إلى مسألتين أصوليتين هما:
1 – هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أم
لا ؟[1]،
فالصلاة في الأرض المغصوبة منهي عنها، فهل يلحقها البطلان والفساد بهذا النهي –
فلا يسقط الطلب عن المكلف - أم لا؟.
2 – انفكاك جهة الفعل بحيث يكون الفعل
الواحد واجبا وحراما من جهتين، كالصلاة في الدار المغصوبة فهي صحيحة من جهة لأن
الصلاة مطلوب فعلها، والمكان المصلى فيه مطلوب تركه وعدم المكوث فيه من جهة أخرى
لأنه مغصوب، فاجتمع لدينا أمر بالصلاة مطلق، ونهي عن الغصب مطلق[2].
ثالثا: تحرير محل النزاع
يجب أولا أن نعلم أن الصلاة في المكان
المغصوب حرام بالإجماع[3]، فإذا
فعلها المكلف فهل صلاته تلك صحيحة أم فاسدة ؟ وعلى القول بالبطلان وعدم الصحة، فهل
تجزئ صاحبها أم أنها لا تسقط التكليف عليه ؟ اختلف الأئمة في ذلك على الوجوه التي
سيأتي ذكرها.
رابعا: مذاهب العلماء
أ – رأي الباقلاني
استهل ابن الطيب في "التقريب
والإرشاد" حديثه عن حكم الصلاة في الدار المغصوبة بادعاء وقوع الإجماع على
أنها مجزئة[4]،
وبالتالي لا يطالب فاعلها بالإعادة، وقد بنا هذا الإجماع على أنه يستحيل على أئمة
السلف رضي الله عنهم أن يروا الغُصَّاب المتمسكين بضروب العدوان يصلون في الأراضي
والدور المغتصبة، ثم لم يصر أحد من أهل الحل والعقد إلى إفساد الصلوات في الأرض
المغصوبة ولم يوجبوا قضاءها، ولا يسوغ من المجمعين الصمت والسكوت على خلاف الحق إذ
العصمة تجب لهم كافة كما تجب للرسول صلى الله عليه وسلم[5].
وهو رحمه الله وإن كان يرى أنها مجزئة
فإنه يتفق مع القائلين بأنها باطلة وغير صحيحة، قال:«إذا قلنا إن الصلاة في
الدار المغصوبة مجزئة فلسنا نعني بذلك أنها تقع مأمورة بها، ولكن المعنى بذلك أنها
مع كونها محرمة تسقط المأمور به عند إقامتها»[6].
فحقيقة مذهب الباقلاني إذن أن التكليف
بالصلاة يسقط عندها لا بها، لأنها لا تقع صحيحة، ولكنها تسقط عن المكلف وتبرأ بها
ذمته ولا يسأل عنها يوم القيامة، فهي وإن كانت محرمة في أصل فعلها، فإنها تسقط
عن المكلف للإجماع المذكور، لا بها لقيام الدليل على عدم صحتها[7].
وهذا أيضا مذهب أبي بكر الرازي،
الذي قال في المحصول:« الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم تكون مأمورا بها، إلا أن
الفرض يسقط عندها لا بها، لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها.
والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون
بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة، ولا طريق للتوفيق بينها إلا ما ذكرنا،
وهو مذهب القاضي أبي بكر رحمه الله»[8].
وقد ذكر الغزالي أن سبب قول القاضي
بهذا الرأي، هو أنه لما قام الدليل عنده على عدم الصحة، ثم ألزمه الخصم بإجماع
السلف المذكور على عدم أمر الظلمة والمغتصبين بإعادة الصلاة، أشكل الجواب عليه
لعظم مخالفة الإجماع، فقال: يسقط الوجوب عندها لا بها[9].
ب – رأي الجويني ( وهو رأي الجمهور )
ذهب الإمام إلى صحة هذه الصلاة،
وسقوط الطلب بها، واشتد نكيره على القاضي أبي بكر فيما ذهب إليه، حين جعل سقوط
التكليف عندها مماثلا لسقوطه بأعذار تطرأ كالجنون وغيره، قال الجويني معقبا:« وهذا
حائد عندي عن التحصيل، غير لائق بمنصب هذا الرجل الخطير، فإن الأعذار التي ينقطع
الخطاب بها محصورة، فالمصير إلى سقوط الأمر عن متمكن من الامتثال ابتداء ودواما،
بسبب معصية لابسها لا أصل له في الشريعة»[10].
وبين رحمه الله صحة توجه
الأمر والنهي معا إليها باعتبار الجهتين، وقرر أن هذا الفعل الذي أتى به
المصلي - وهو الصلاة - مأمور به باعتبار كونه صلاة يتقرب بها إلى الله، وهو في نفس
الوقت منهي عنه من جهة كونه غصبا لملك الغير،
فقال:« ... فنسلم أن الأكوان التي بنى الخصم الكلام عليها معصية من جهة
وقوعها غصبا، وندعي وراء ذلك أنه مأمور بها من جهة أخرى، وليس ذلك
ممتنعا بل هو الحق»[11].
وهذا الذي ذهب إليه الإمام هو مذهب
جمهور الفقهاء، وأصحاب الأصول[12]،
والنظام من المعتزلة[13]،
وبناء عليه، فإن الآتي بها يستحق ثواب الصلاة وعقاب الغصب[14].
ب – رأي من يقول بالبطلان وعدم الإجزاء
ينسب هذا القول إلى الإمام أحمد[15]،
والمعتزلة غير النظام، والظاهرية والزيدية،
ورواية عن مالك، ووجه لأصحاب الشافعي[16].
قال ابن حزم:« من صلى بثوب نجس أو
مغصوب، وهو يعلم ذلك، ويعلم أنه لا يجوز له ذلك الفعل، أو صلى في مكان نهي عن
الإقامة فيه، كمكان نجس أو مكان مغصوب، أو في عطن الإبل أو إلى قبر، أو من
ذبح بسكين مغصوبة، أو حيوان غيره بغير إذن صاحبه، أو توضأ بماء مغصوب، أو بآنية
فضة، أو بإناء مغصوب، أو بإناء ذهب، فكل هذا لا يتأدى فيه فرض، فمن صلى
كما ذكرنا فلم يصل، ومن توضأ كما ذكرنا فلم يتوضأ،...»[17].
وهذا المذهب يوافق مذهب الباقلاني في
البطلان وعدم الصحة، ويخالفه في الإجزاء.
ج – رأي من يقول بأن فعل الصلاة يحرم، أما الصلاة فهي صحيحة
مجزئة
وهو رواية عن أحمد، ومالك والشافعي[18].
فهذه الصلاة واجبة حرام باعتبارين، فتكون صحيحة، لأن متعلق الطلب ومتعلق النهي في
ذلك متغايران، فكانا كاختلاف المحلين، لأن كل واحدة من الجهتين مستقلة عن الأخرى،
واجتماعهما إنما هو باختيار المكلف، فليسا متلازمين، فلا تناقض[19].
وهذا القول قريب من قول الجمهور
لمراعاته انفكاك الجهة في الحكم على الصلاة في الدار المغصوبة.
خامسا: الموازنة بين الأقوال
اعتمادا على ما سبق بيانه ونقله من
مذاهب العلماء في حكم الصلاة في الدار المغصوبة، وبالنظر إلى أدلة كل طائفة على
حدا، يتبين أن قول الجمهور هو أقربها إلى الصواب، لجواز اجتماع
الوجوب والحرمة في العين الواحدة ذات الجهتين المنفكتين، فالصلاة صحيحة لأن الفعل
مطلوب القيام به، والمكان المصلى فيه – مغصوب – مطلوب تركه، فالفعل هنا له جهتان:
فهو مأمور به من إحداهما منهي عنه من الأخرى، فيكون القائم بالفعل التي هذه صفته،
حاصلا على ثواب الصلاة، مستحقا لعقوبة الغصب.
قال الشيخ أحمد شاكر معلقا على مذهب
ابن حزم ومن معه القائلين بالبطلان وعدم الإجزاء: « فإنا لو قلنا بما ارتضى، لكان
الرجل إذا صلى وهو يبغض أخاه المؤمن بطلت صلاته، لأنه صلى مرتكبا محرما كما في
الثوب المغصوب سواء[...] والذي نراه أقرب إلى الصواب، أن يفرق بين النهي عن الفعل
بصفة ما – فهذا قريب أن يحكم ببطلانه -، وبين النهي عن شيء آخر يلازم الفعل،
فالنهي عن الصلاة في عطن الإبل نهي عن الصلاة نفسها في المكان، وأما الصلاة في
الأرض الغصب، والثوب الغصب فإن النهي لم يأت عن الصلاة وإنما عام في كل عمل هو غصب
[...] والنهي عن أحدهما لا يكون نهيا عن الآخر إلا بدليل صريح»[20].
[4] - وقد رد كل من الجويني في البرهان 1/202،
والسمعاني في قواطع الأدلة 1/244-245، والقرافي في نفائس الأصول 4/168 دعوى الإجماع هاته، بينما تابعه عليها الغزالي
في المستصفى 1/78-79، والرازي في المحصول 2/290-291.
[6] - التلخيص 1/489، وانظر التقريب والإرشاد 2/359-360،
وقد آثرت النقل من التلخيص – وإن كان الأولى العكس -لأن عبارته أوضح، ولأن إمام
الحرمين قد صرح بأن هذا قول القاضي.
[12] - المجموع 3/169، وانظر مقالات الإسلاميين 2/336، والعدة 2/442،
والبرهان 1/199، وقواطع الأدلة 1/240، والمنتهى ص: 37، والمسودة ص: 65، وفواتح
الرحموت 1/105.
[16] - أنظر قواطع الأدلة 1/240-241، والإحكام للآمدي
1/155، و المجموع شرح المهذب للنووي 3/169، وشرح الكوكب المنير 1/392.
0 التعليقات: