أولا: صورة المسألة
قبل أن نخوض في صورة هذه المسألة يجب
التنبيه أولا على أن الأصوليين اختلفوا في ترجمتها، قال الزركشي: «فمنهم من ترجمها
بأن الحقيقة الشرعية هل هي واقعة أم لا؟ كما في "المحصول"[1]،
ومنهم من ترجمها بالأسماء الشرعية كما عبر به ابن الحاجب في "المنتهى"[2]،
والبيضاوي في "منهاجه"[3]، وهو
الصواب، ليشمل كلا من الحقائق الشرعية والمجازات الشرعية، فإن البحث جار فيهما
وفاقا وخلافا»[4].
وقد تحدث الباقلاني عن هذه المسألة في
"التقريب والإرشاد" تحت عنوان: القول في أن جميع أسماء الأحكام
والعبادات لغوية غير مغيرة ولا منقولة[5]، و
أما الجويني فقد ذكرها في جملة ما تحدث عنه من الألفاظ التي جرى رسم الأصوليين
بالكلام عليها، وسماها ب: ألفاظ استعملها العرب فجرت في ألفاظ الشارع صلى الله
عليه وسلم على أنحاء لم تعهد في اللغة المحضة[6].
أما عن صورتها فإنها تتبين وتتضح من
خلال التعاريف والأمثلة التي وضعها العلماء للأسماء الشرعية، وفيما يلي بعض هذه
التعاريف المعتمدة في هذا الباب والتي نستطيع من خلالها تقريب المسألة وتجليتها
للأفهام.
من ذلك تعريف أبي الحسين البصري
للأسماء الشرعية بقوله: «ما استفيد بالشرع وضعه للمعنى»[7]،
وعرفها الفراء بقوله: «الاسم المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في موضوع
اللغة»[8]،
وعرفها الشيرازي ب: « كون اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى وورد الشرع به في غيره وكثر
استعماله فيه حتى صار لا يعقل من إطلاقه إلا المعنى الذي أريد به في الشرع»[9].
و الملاحظ أن كلا عرف الأسماء الشرعية بحسب
حقيقتها عنده، فالمعتزلة ومن قال بقولهم - وهو أنها نقلت إلى معان جديدة لا تشترط
فيها علاقة بين المعنى التي كانت له في اللغة والمعنى الشرعي الجديد- عرفها بما
عرفها به أبو الحسين.
ومن قال إنها نقلت من اللغة إلى الشرع،
ولكن لوجود علاقة بين معناها اللغوي ومعناها الشرعي عرفها بما عرفها به أبو يعلى و
أبو إسحاق الشيرازي[10].
أما فيما يتعلق بإمامينا، فإن
الباقلاني لم يضع تعريفا لها، وكل ما ورد في "التقريب والإرشاد" هو
حكاية تعريف على لسان من قالوا بنقل الأسماء اللغوية إلى أسماء شرعية حيث قال: «قالوا:
فأما الأسماء الشرعية فهي الأسماء اللغوية التي نقلت في الشرع إلى أحكام شرعية»[11]،
وذلك لكونه لا يرى نقل هذه الأسماء من اللغوية إلى الشرعية ولا تغييرها.
و أما إمام الحرمين فقد عرفها تعريفا
موضوعيا بعيدا عن رأي أو مذهب حين قال: «في ألفاظ استعملها العرب، فجرت في ألفاظ
الشارع صلى الله عليه وسلم على أنحاء لم تعهد في اللغة المحضة»[12].
وخلاصة القول: إن الأسماء الشرعية هي تلك
الأسماء التي وردت في لسان العرب على معان مخصوصة، ثم لما جاء الشرع حملها على
معان أخرى لم تعهد في اللغة المحضة، وقد تقاربها في المعنى أحيانا كما تخالفها
أحيانا أخرى.
فخصص بعض الأسماء ببعض مسمياتها،
كألفاظ الإيمان والحج والصوم ونحوها، كما صنع العرف في لفظة الدابة[13]
مثلا.
وأطلق بعض الألفاظ على ما له صلة
بمعناها، كما أطلق لفظ الصلاة على الركوع والسجود وما اقترن بهما مما له صلة
بالدعاء، ولفظ الزكاة على المقدار الواجب إعطاؤه للفقير بسبب النماء (أي:الزكاة)،
كما فعل العرف في لفظة الغائط، حيث وضع ابتداء للمكان المطمئن من الأرض، ثم استعمل
في الفضلة المستقذرة فصار سابقا إلى الفهم[14].
ولمزيد من التفصيل والبيان، آثرت أن
أورد بعض الأمثلة على ذلك مما ذكره أبو يعلى الفراء في "العدة"[15]، من
ذلك: أن المؤمن هو في اللغة عبارة عن كل مصدق، واختص في الشريعة بمن آمن بالله حتى
لا يجوز استعماله في غيره، وكذلك اسم الكافر: عبارة عن كل مغطى، وقد اختص ذلك
الاسم في الشرع بمن كان كافرا بالله تعالى، ومثل اسم الصلاة: فإنه في اللغة
الدعاء، وفي الشرع لأفعال حصل معها الدعاء، وكذلك الزكاة في اللغة عبارة عن
النماء، وفي الشريعة عبارة عن إخراج ماله، وكذلك الربا عبارة عن الزيادة وفي
الشريعة عبارة عن أمور قد لا يحصل معها زيادة، وكذلك الصوم عبارة عن الإمساك في
اللغة وفي الشريعة: إمساك بصفة وهو عن الأكل و الشرب والجماع مع النية...
ثانيا: كيف يتوصل إلى معرفة
الحقيقة الشرعية للألفاظ
هذا ويتوصل إلى معرفة المعنى الشرعي
بإحدى طريقتين:
الأولى: استقراء النصوص الشرعية، وتتبع
استعمال اللفظ المراد.
الثانية: استعمال الصحابة وعرفهم
للألفاظ، إذ الشرع نزل بلغتهم وبعرفهم في الأصل، وهو ما اصطلح عليه: بعرف زمن
التشريع[16].
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: «
الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة:
منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع، فقد
بينه الله ورسوله، كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام والكفر
والنفاق.
ومنه ما يعرف حده باللغة كالشمس والقمر
والسماء والأرض والبر والبحر.
ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس
وعرفهم، فيتنوع بحسب عادتهم، كاسم البيع، والنكاح والقبض والدرهم والدينار ونحو
ذلك من الأسماء التي لم يحدها الشارع بحد، ولا لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل
اللغة، بل يختلف قدره وصفته باختلاف عادات الناس.
فما كان من النوع الأول فقد بينه الله
ورسوله، وما كان من الثاني والثالث، فالصحابة والتابعون المخاطبون بالكتاب والسنة
قد عرفوا المراد به، لمعرفتهم بمسماه المحدود في اللغة أو المطلق في عرف الناس
وعادتهم من غير حد شرعي ولا لغوي، وبهذا يحصل التفقه في الكتاب والسنة»[17].
ثالثا: تحرير محل النزاع
ينحصر محل النزاع في النقطتين
التاليتين:
1 – قال الشوكاني:« إن الشرعية هي:
اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع لا بوضع أهل الشرع[...] فمحل النزاع
الألفاظ المتداولة شرعا، المستعملة في غير معانيها اللغوية»[18]،
وقال الزركشي:« إن الشرعية تطلق على معنيين: ما في كلام الشارع، وما في كلام حملة
الشرع من المتكلمين والفقهاء، وهذا الخلاف إنما هو بالنسبة إلى كلام الشارع،
وأما بالنسبة إلى المتشرعة فليست حقيقة شرعية بل عرفية، وليست من محل النزاع في
شيء»[19].
2 – محل النزاع منحصر في الاسم الشرعي فقط
دون الحرف والفعل، قال الرازي:« كما وجد الاسم الشرعي، فهل وجد الفعل الشرعي،
والحرف الشرعي؟
الأقرب أنه لم يوجد»[20].
رابعا: مذاهب العلماء في الحقيقة
الشرعية
أ – رأي الباقلاني
لقد تضاربت أقول الأصوليين بشأن رأي
الباقلاني في هذه المسألة، واختلفوا في تحديد مذهبه إلى ثلاثة أقوال، لذلك سأعمد
إلى ذكر هاته الأقوال الثلاثة المنسوبة إليه وتحقيق القول فيها:
القول الأول: إن هذه الأسماء لم تنقل،
ولم يزد في معناها، بل هي مقرة على حقائق اللغات لم تبدل، وقد نسب إليه هذا القول
الجويني في "البرهان"[21]، وابن تيمية الأب- أبو المحاسن عبد الحليم (ت
682هـ ) - في "المسودة"[22]، والسمعاني
في "قواطع الأدلة"[23]،
والرازي في "المحصول"[24]،
والزركشي في "البحر المحيط"[25]،
والمازري في شرحه للبرهان المسمى "إيضاح المحصول من برهان الأصول"[26]،
والبيضاوي في "المنهاج"[27]، وهو
موافق لما ورد عن القاضي عند استهلاله الحديث عن المسألة في "التقريب
والإرشاد" حيث قال: « إن الذي عليه أهل الحق وجميع سلف الأمة من الفقهاء
وغيرهم أن الله سبحانه لم ينقل شيئا من الأسماء اللغوية إلى معان وأحكام شرعية،
ولا خاطب الأمة إلا باللسان العربي، ولا أجرى سائر الأسماء والتخاطب إلا على ما
كان جاريا عليه في وضع اللغة »[28].
يقول الشيرازي في "اللمع"
مبينا حقيقة هذا القول:« ومن أصحابنا من قال ليس في الأسماء شيء منقول إلى الشرع،
بل كلها مبقاة على موضوعها في اللغة، فالصلاة اسم للدعاء وإنما الركوع والسجود
زيادات أضيفت إلى الصلاة وليست من الصلاة كما أضيفت إليها الطهارة وليست منها،
وكذلك الحج اسم للقصد، والطواف والسعي زيادات أضيفت إلى الحج وليست من الحج، فإذا
أطلق اسم الصلاة حمل على الدعاء، وإذا أطلق اسم الحج حمل على القصد، وهو قول
الأشعرية »[29].
قال المازري في "شرح البرهان":
« وهو رأي المحققين من أئمتنا الفقهاء والأصوليين»[30]. وهو
قول القاضي أبي بكر، والإمام أبي نصر بن القشيري، ونقل هذا القول عن المروزي
والشيخ أبي الحسن الأشعري[31]،
وافقه الجويني عليه في "التلخيص"[32] ثم
خالفه وشنع عليه في "البرهان"[33] كما
سيأتي.
القول الثاني: إن الأسماء اللغوية باقية
لم تنقل إلى أخرى شرعية وإنما ضمت الشريعة إليها شروطا وقيودا حتى تصير بذلك
شرعية، فالصلاة مثلا هي الدعاء ولكن الشرع أخذ علينا أن تكون دعاء على شروط معينة
من نية وقراءة وركوع وسجود كما سيأتي من كلام الباقلاني نفسه.
وهذا القول حكاه عنه القرافي في
"شرح التنقيح"[34]، و
ابن تيمية الجَدّ – أبو البركات ( ت652هـ )- في "المسودة"[35]، وأبو
الحسن المرداوي الحنبلي في "التحبير"[36]،
وابن المبرد الحنبلي (ت909هـ) في "شرح غاية السول"[37].
قال القرافي: «قال القاضي أبو بكر: لم
يضع صاحب الشرع شيئا، وإنما استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية، ودلت الأدلة على
أن تلك المسميات اللغوية لابد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية»[38].
ويؤيد هذا النقل ما ورد عن الباقلاني
في آخر المسألة وهو يناقش آراء مخالفيه ويرد عليهم، حيث قال: «فالاسم في الشريعة
لما كان صلاة في اللغة وإن ضمت إليه شروط شرعية»[39]، و
قوله: «والحج هو القصد، ولكنه في الشرع قصد إلى بيت مخصوص، وعلى أوصاف وشروط
مخصوصة»[40]، فالشرع تصرف بوضع الشرط
لا بتغيير الوضع[41].
وقد قال بهذا الرأي أبو يعلى الفراء[42]،
وأبو الفرج المقدسي[43]،
وجماعة من المتكلمين والأشعرية[44]،
ونسبه الجويني إلى طوائف من الفقهاء[45].
القول الثالث: حكاه عنه الشوكاني في "إرشاد
الفحول" حيث قال: «وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وبعض المتأخرين ورجحه
الرازي[46] أنها
مجازات لغوية غلبت في المعاني الشرعية لكثرة دورانها على ألسنة أهل الشرع»[47]، وما
نسبه إليه الشوكاني رحمه الله بعيد، وهو عين مذهب الجويني والرازي كما سيأتي بيانه
قريبا، كما أنه مخالف لما ورد عن القاضي من نقول سبق الإشارة إليها.
حقيقة مذهب الباقلاني
قال ابن تيمية:«وحقيقة مذهب ابن
الباقلاني، أن الصلاة ليست أسماء للأركان، وإنما هي اسم لمجرد الدعاء، لكن قيل لنا
في الشريعة: ضموا إلى دعائكم كذا وكذا وادعوا على حال دون حال، والصوم الإمساك،
كأنه قيل لنا: أمسكوا من وقت إلى وقت، وضموا إلى الإمساك النية وغيرها، فالقيود
واجبة في الحكم غير داخلة في الاسم»[48].
ب – رأي الجويني
رأينا فيما سبق أن إمام الحرمين قد
وافق الباقلاني فيما ذهب إليه في كتابه "التلخيص"، ولكنه عاد وخالفه بل
وأنكر عليه أشد الإنكار في "البرهان"[49].
ومذهب الإمام يتلخص في كون هذه الألفاظ
استعملها الشارع كمجازات ثم اشتهرت فصارت حقائق شرعية، لغلبتها فيما نقلت إليه[50]، قال
في البرهان: « الدعاء التماس، وأفعال المصلي أحوال يخضع فيها لربه عز وجل، ويبغي
بها التماسا، فعمم الشرع عرفا في تسمية تلك الأفعال دعاء تجوزا واستعارة،
وخصص اسم الصلاة بدعاء مخصوص، فلا تخلوا الألفاظ الشرعية عن هذين الوجهين، وهما
متلقيان من عرف الشرع، فمن قال: إن الشرع زاد في مقتضاها وأراد هذا فقد أصاب الحق،
وإن أراد غيره فالحق ما ذكرناه، ومن قال: إنها نقلت نقلا كليا فقد زل »[51].
ووافق هذا القول الغزالي في
"المستصفى"[52]، وهو
أيضا قول قريب مما ذهب إليه الرازي في "المحصول" حيث قال: « والمختار:
إن إطلاق هذه الألفاظ على هذه المعاني على سبيل المجاز من الحقائق اللغوية
»[53].
كما أن هذا المذهب هو ما رجحه البيضاوي
في "المنهاج"[54]، واختاره
أيضا شمس الدين الأصفهاني في شرحه للمنهاج حيث قال:«والحق: أن الألفاظ التي
استعملها الشارع مجازات لغوية على معنى : أن الشارع نقل تلك الألفاظ من مسمياتها
اللغوية إلى معان أخر بينها وبين المسميات – بحسب اللغة – مناسبة معتبرة، واشتهرت
بعد أن كانت لغوية فصارت حقائق شرعية لا أنها موضوعات مبتدأة»[55].
ج – مذهب المعتزلة
أنها حقائق وضعها الشارع مبتكرة لم يلاحظ فيها المعنى
اللغوي أصلا، وليس للعرب فيها تصرف، قالوا: وتارة يصادف الوضع الشرعي علاقة بينه
وبين المعنى اللغوي، فيكون اتفاقا غير ملتفت إليه، وتارة لا يصادفه، ونقل الشارع
هذه الألفاظ من الصلاة والصيام وغيرهما من مسمياتها اللغوية، وابتداء وضعها لهذه
المعاني ليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها[56].
قال أبو الحسين في المعتمد: « ذهب
شيوخنا والفقهاء إلى أن الاسم اللغوي يجوز أن ينقله الشرع إلى معنى آخر[...]
ولا فرق بين أن يوضع لتلك العبادة اسم مبتدأ، وبين أن ينقل إليها اسم من أسماء
اللغة مستعمل في معنى له شبه بالمعنى الشرعي»[57].
وقد نسب الباقلاني هذا القول أيضا إلى
الخوارج وبعض الفقهاء[58].
وقال به السمعاني وصححه في "قواطع الأدلة"[59].
وقد قسمت المعتزلة اللفظ إلى ديني وشرعي،
فالأسماء الدينية ثلاثة: الإيمان والكفر والفسق، وهي عندهم مستعملة في الشرع في
غير المعنى اللغوي حقيقة ومجازا، وغرضهم أن الشرع استعملها في غير ما استعملها
الوضع اللغوي، ولهذا أثبتوا الواسطة بين الإيمان والكفر.
وأما الشرعية فهي عندهم أسماء لغوية
نقلت في الشرع عن أصل وضعها إلى أحكام شرعية، كالصلاة والحج والزكاة والصيام،
فزعموا أن هذه الأحكام إنما حدثت في الشرع، ونقلت إليها هذه الأسماء من اللغة[60].
فالدينية إذن تتعلق بأصول الدين،
والشرعية بفروعه.
د – مذهب الشيرازي
ذهب الشيرازي في "شرح
اللمع" إلى القول بالنقل في الأسماء الشرعية فقط دون الأسماء الدينية، ونسب
الزركشي هذا القول لابن الصباغ واختاره[61].
قال الشيرازي: «وقد نصرت في
"التبصرة" أن الأسماء منقولة، قال: ويمكننا نصرة ذلك من غير أن
نشارك المعتزلة في بدعتهم فنقول: إن هذه الألفاظ التي ذكرناها منقولة من اللغة إلى
الشريعة، وليس من ضرورة النقل أن يكون في جميع الألفاظ، وإنما يكون على حسب ما يدل
عليه الدليل »[62]، وقال أيضا:«ويمكننا أن
نحترز من هذه المسألة – أي مسألة النقل في لفظ "الإيمان" – فنقول: إن
هذه الأسماء- أي الشرعية - منقولة إلا هذه المسألة»[63] وذلك
احترازا من مشاركة المعتزلة في بدعتهم في القول بالمنزلة بين المنزلتين والتي ترجع
في أصولها إلى مصطلح الإيمان -كما سيأتي بيانه عند حديثنا عن ثمرات الخلاف في هذه
المسألة-، وكذلك الأمر بالنسبة للخوارج حيث إنهم يصححون قولهم على هذا الأصل[64].
هـ - مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية
حيث قال في مجموع الفتاوى: « والتحقيق أن الشارع لم
ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة، كما يستعمل نظائرها،
كقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت }[65] فذكر
حجا خاصا، وهو حج البيت [...] فإذا قيل: الحج فرض عليك، كانت لام العهد تبين أنه
حج البيت [...] وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الخصائص، والاسم دل عليها، فلا
يقال: إنها منقولة، ولا أنه زيد في الحكم دون الاسم، بل الاسم إنما استعمل على
وجه يختص بمراد الشارع، لم يستعمل مطلقا »[66]،
ونسب إليه هذا القول صاحب "التحبير" وصححه قائلا:«وقال الشيخ تقي الدين
وجمع من العلماء:( لم تنقل ولم يزد فيها، بل الشارع استعملها على وجه اختص بمراده)
وهو أظهر وأولى»[67]
و – مذهب الآمدي
توقف الإمام الآمدي في ترجيح أحد هذه
الأقوال على غيرها، فقال: « وإذا عُرف ضعف المأخذ من الجانبين، فالحق عندي في ذلك
إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين، وأما ترجيح الواقع منهما، فعسى أن يكون عند
غيري تحقيقه »[68].
خامسا: الموازنة بين المذاهب
بناء على ما تقدم باينه من أقوال
العلماء ومذاهبهم في الحقيقة الشرعية، فإن أقسط هذه الأقوال وأقربها للصواب –
والله أعلم – هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن هذه الأسماء لم تنقل ولم
يزد فيها ولا كونها مجازات لغوية، وإنما هي أسماء استعملها الشارع على وجه اختص
بمراده ولم يستعمل مطلقا من قبل.
سادسا: ثمرة الخلاف في هذه
المسألة
للخلاف في هذه المسألة ثمرات عدة، منها
ما يعود إلى أصول الدين ومنها ما يعود إلى فروعه.
فمن ثمرات النزاع في أصول الدين
اختلافهم في وجود واسطة بين الإيمان والكفر وهو ما يعبر عنه المعتزلة بالمنزلة بين
المنزلتين، فأهل السنة لا يقولون بذلك، وأثبتته المعتزلة قائلين بأن صاحب الكبيرة
ليس بمؤمن ولا كافر[69]،
وأصل ذلك ما وقع من حروب إثر مقتل عثمان رضي الله عنه، حيث قالت المعتزلة في شأن
من خاض في هذه المعارك:« ننزلهم منزلة بين المنزلتين، فلا نسميهم كفارا ولا
مؤمنين، ونقول هم فسقة»، حتى أطلقوا هذا القول على عظماء الصحابة كطلحة[70]
والزبير[71]،
فقيل لهم:«إن الإيمان في اللغة هو التصديق وهؤلاء مصدقون موحدون»، فقالوا: «إن هذه
حقيقة في اللغة وقد نقل في الشرع إلى غيره فجُعل اسما لمن لم يرتكب شيئا من
المعاصي، فمن ارتكب شيئا منها خرج من الإيمان ولم يبلغ الكفر»[72]،
وهذا المنهج نفسه نهجه الخوارج في تكفيرهم لعموم المسلمين بموجب المعصية.
وكذلك الأمر بالنسبة للشيعة فإنهم
يستندون إلى النقل في مسمى الإيمان للقدح في الصحابة وتكفيرهم، قال القرافي: «وقال
القاضي : فتح هذا الباب يحصل غرض الشيعة من الطعن على الصحابة رضوان الله عليهم،
فإنهم يكفرون الصحابة، فإذا قيل: إن الله تعالى وعد المؤمنين بالجنة وهم قد آمنوا،
يقولون: إن الإيمان الذي هو التصديق قد وقع منهم، ولكن الشرع نقل هذا اللفظ إلى
الطاعات، وهم صدقوا وما أطاعوا في أمر الخلافة»[73].
ومن ثمراته أيضا اختلافهم في تعريف
الإيمان، بين من يقول ببقائه على أصله اللغوي الذي هو التصديق كما هو حال
الباقلاني[74] والجويني[75]
وعامة الأشاعرة، وبين من يضيف إليه قيودا أخرى حتى صار يطلق في الشرع على التصديق
بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح[76]، قال
ابن تيمية: « وسبب الكلام في "مسألة الإيمان" تنازع الناس هل في اللغة
أسماء شرعية نقلها الشارع عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية في الشرع على ما كانت
عليه في اللغة، لكن الشارع زاد في أحكامها لا في معنى الأسماء»[77].
ومن مظاهر هذا الخلاف في فروع الشريعة :
أن هذه السماء إذا وجدت في كلام الشارع مجردة عن القرينة محتملة المعنى اللغوي،
فعلى أيهما يحمل؟[78].
اختلف العلماء في ذلك إلى عدة أقوال،
والجمهور على أنها تحمل على المعاني الشرعية[79]، قال
الإسنوي:«إذا تردد اللفظ الصادر من الشارع بين أمور فيُحْمَل أولا على المعنى
الشرعي، لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الشرعيات، فإن تعذر حُمِل على الحقيقة
العرفية الموجودة في عهده عليه الصلاة والسلام، لأن التكلم بالمعتاد عرفا أغلب من
المراد عند أهل اللغة، فإن تعذر حُمِل على الحقيقة اللغوية لتعيينها بحسب الواقع»[80].
ومن الأمثلة على ذلك في الفقه
الإسلامي:
اختلافهم في المراد بقوله صلى الله
عليه وسلم:«لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح»[81]، فقد
احتج به المالكية على أن المحرم لا يتزوج حال إحرامه بناء على أن معنى النكاح في
الحديث العقد، حملا له على معناه الشرعي.
وذهب الأحناف إلى احتمال أن يراد بالنكاح الوطء
كما قال الشاعر:
كبكر تحب لذيذ النكا * * * ح وتهرب من
صولة الناكح
وإذا كان المراد به الوطء دل الخبر على
حرمة الوطء على المحرم لا على حرمة العقد[82].
وكذلك اختلافهم في قوله صلى الله عليه
وسلم: « توضؤا مما مست النار »[83] فإنه
يحتمل أن يكون أراد الوضوء الشرعي، ويحتمل أن يكون أراد الوضوء اللغوي، فمنهم من
زعم أنه مجمل لهذا الاحتمال، ومنهم من يرى أنه ليس بمجمل، وأنه إنما يحمل على
المسمى الشرعي، لأنه عرف الشارع، وإنما يحمل لفظ الشارع على عرفه[84].
[3] - أنظر شرح المنهاج لشمس الدين الأصبهاني (749
هـ) 1/238، والإبهاج في شرح المنهاج للسبكي الأب (756هـ) والإبن ( 771هـ)1/287.
[6] - البرهان في أصول الفقه للجويني 1/133. وهذه هي
الصيغة التي أورد بها الدكتور الديب هذه المسألة في فهرسته.
[13] - فالدابة في اللغة اسم لكل ما يدب على الأرض،
وقد غلب على ما يركب من الحيوان ( المعجم الوسيط 1/268).
[60] - البحر المحيط 2/166، قال القاضي عبد الجبار في
"شرح الأصول الخمسة" ص: 710:« والشرعي ينقسم إلى ما يكون من الأسماء
الدينية، وذلك نحو الأسماء التي تجري على الفاعلين، نحو قولنا: مؤمن وفاسق وكافر،
وإلى ما لا يكون كذلك نحو الصلاة...».
[70] - هو طلحة بن عُبَيْد الله التميمي، أحد العشرة
المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثمانية الذين سبقوا في
الإسلام، ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهم يوم بدر، وأبلى يوم أحد بلاء
شديدا، وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال:« ذلك يوم كله لطلحة».استشهد يوم الجمل
سنة 36هـ.( خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال 2/13 ترجمة رقم 3195، وانظر
ترجمته في أسد الغابة 3/88 ترجمة رقم: 2628، وسير أعلام النبلاء 1/23، والعبر
1/27).
[71] - هو الزبير بن العوام الأسدي حواري رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة السابقين، وأحد
البدريين وأول من سل سيفا في سبيل الله، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد كلها. توفي
سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل.( خلاصة تذهيب تهذيب الكمال1/365 رقم:
2127، وانظر: أسد الغابة 2/207 ترجمة 1732، والسير 1/41، والعبر 1/27).
[75] -قال في الإرشاد إلى قواطع الأدلة ص: 158:
«والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة وأصل العربية». و لكنه أضاف قيد
القول باللسان في العقيدة النظامية ص: 257، كما أنه حكى هناك قول السلف أن «الإيمان
معرفة بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان وقال: وهذا غير بعيد في التسمية»
ص: 265.
[76] - أنظر في حقيقة الإيمان: العقيدة الطحاوية ص:
331 وما بعدها، ومجموع الفتاوى 7/298 وما بعدها، وشرح حديث جبريل لابن تيمية، ص:
56 وما بعدها.
[81] - رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله
عنه، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، رقم: 1409 بزيادة:«ولا
يخطب».
[83] - رواه مسلم من حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله
عنهما، كتاب الحيض، باب الوضوء مما مست النار، رقم: 352-353.
0 التعليقات: