أولا: تعريف النسخ لغة
النسخ في اللغة يأتي بمعنى التبديل،
والإزالة، والنقل، وهو إبطال الشيء وإقامة آخر مكانه[1].
قال الإمام:« معناه لغة: الإزالة،
وقيل: معناه النقل»[2].
وقد اختلف
الأصوليون في المعنى الحقيقي للنسخ لغة على ثلاثة مذاهب:
الأول: إنه حقيقة في الإزالة مجاز في
النقل، وهو اختيار أبو الحسن البصري[3]
والرازي[4]،
ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين[5]،
واختاره السبكي[6].
ثانيا: تعريف النسخ اصطلاحا
تعددت أقوال وعبارات الفقهاء
والأصوليين في تعريف النسخ اصطلاحا، وسبب ذلك هو اختلافهم في النسخ هل هو رفع
للحكم[11]، أو
بيان[12]
لانتهاء أمده[13]. ومن بين تلك التعاريف:
أ – تعريف القاضي (النسخ رفع )
«هو الخطاب الدال على ارتفاع
الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه»[14].
وتلخصه عبارة الإمام في "البرهان" حيث قال حكاية عن القاضي:« النسخ رفع
الحكم بعد ثبوته»[15].
وقد اختار هذا التعريف الجويني في
"الورقات"[16]،
والشيرازي في "شرح اللمع"[17]،
والغزالي في "المستصفى"[18]،
وابن عقيل في "الواضح"[19].
فالنسخ إذن عند القاضي ومن تبعه في
تعريفه هو بمعنى رفع الحكم. وممن وافق القاضي في كون النسخ رفعا بالإضافة إلى
من ذكرنا، وإن اختلفت ألفاظهم وعباراتهم في تعريف النسخ:
1 –
ابن الحاجب، حيث عرفه في المنتهى بقوله:«رفع الحكم الشرعي بدليل
شرعي متأخر»[20].
2 – التعريف المنسوب إلى الفقهاء: « اللفظ
الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده»[21]. فهم
وإن لم يصرحوا بلفظ الرفع، فإنهم وافقوا القائلين بالرفع في المعنى، لأن انتهاء
أمد الوجوب ينافي بقاءه، وعليه فإنهم قد قالوا بالرفع معنى وفروا منه لفظا[22].
3 – التعريف المنسوب إلى المعتزلة: «هو
اللفظ الدال على أن الحكم الذي دل عليه اللفظ الأول زائل في المستقبل على
وجه لولاه لثبت مع التراخي»[23]. قال
السبكي: « وهو كتعريف القاضي والغزالي، إلا أنهم لم يأتوا بلفظ الرفع»[24].
4 – تعريف أبي الحسين البصري:« قول
صادر عن الله عزوجل، أو منقول عن رسول الله، أو فعل منقول عن رسول الله يفيد
إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله، أو بنص أو فعل منقولين عن رسول
الله، مع تراخيه عنه، على وجه لولاه لكان ثابتا»[25].
5 – تعريف الباجي: «هو إزالة
الحكم الثابت بالشرع المتقدم، بشرع متأخر عنه، على وجه لولاه لكان ثابتا»[26].
6 – تعريف الآمدي: «النسخ عبارة عن
خطاب الشارع المانع من استمرار ما ثبت من حكم خطاب شرعي سابق»[27]-[28].
7 – تعريف ابن قدامة المقدسي: « رفع
الحكم الثابت بخطاب متقدم، بخطاب متراخ عنه»[29]، قال
ومعنى الرفع إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتا»[30]. واختار
هذا التعريف ابن المبرد[31].
9 – تعريف أبي عبد الله التلمساني:
«رفع الحكم الشرعي بالدليل الشرعي المتراخي عنه»[34].
10 –
تعريف الشوكاني:« رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه»[35].
وعليه فقد تحصل لدينا من مجموع من
ذكرنا أن القول بأن النسخ هو رفع للحكم هو مذهب: القاضي، وأبي الحسين البصري،
والشيرازي، وأبي الوليد الباجي، والجويني في "الورقات"، والغزالي،
والآمدي، وابن عقيل، وابن الحاجب، وابن قدامة، والأنباري، والصيرفي، والتلمساني،
والسبكي، والزركشي، وابن المبرد، والشوكاني، وهو المنسوب إلى المعتزلة، والفقهاء.
ونسبه في التحبير إلى أكثر العلماء[38].
ب – تعريف الإمام ( النسخ بيان )
عرف الجويني في "البرهان"
النسخ بقوله: « اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول»[39].
وممن وافق الإمام في كون النسخ بيان،
وإن اختلفت أو توافقت ألفاظهم مع عبارة أبي المعالي نجد:
1 – تعريف ابن حزم:« بيان
انتهاء زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر»[40].
2 – تعريف أبو يعلى الفراء:« بيان
انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها الإطلاق»[41]، وعرفه
أيضا بقوله:«إخراج ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان، مع تراخيه عنه»[42].
3– تعريف الرازي:« النسخ طريق شرعي يدل
على أن مثل الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على
وجه لولاه لكان ثابتا»[43].
4 – البيضاوي: « بيان حكم شرعي
بطريق شرعي متراخ »[44].
5– قال القرافي عن قول الرازي والأستاذ
أبي إسحاق الإسفراييني وجماعة في معنى النسخ: « هو بيان انتهاء مدة الحكم، وهو
الحق»[45].
فالقول بأن النسخ عبارة عن بيان انتهاء
مدة الحكم هو قول: الإمام، وابن حزم، وأبو يعلى الفراء، والرازي، والبيضاوي،
والقرافي، وهو منسوب أيضا إلى أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب[46]،
ونسبه السبكي إلى أكثر الفقهاء[47].
ج – تعريف الأحناف
فرق الأحناف في تعريفهم للنسخ بين جهة
الشارع وجهة المكلف، فهو بيان لمدة الحكم في حق الشارع، وتبديل، ورفع، وإبطال
بالنسبة إلى علمنا، قال السرخسي:« النسخ بيان لمدة الحكم المنسوخ في حق
الشارع، وتبديل لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا على ما كان معلوما عندنا لو لم ينزل
الناسخ »[48].
ثالثا: الموازنة بين المذاهب
قال السبكي مبينا عدم جدوى كثرة الخوض
في وضع الحدود، والتعاريف، والاعتراضات، والقيود، وذلك بعد أن سرد مجموعة من
التعاريف الواردة في الباب:« واعلم أن أئمتنا وأئمة المعتزلة قد أكثروا القول في
تعريف النسخ، وأنا أبدا أستثقل الإكثار من ذكر التعاريف، والاشتغال بتزييفها، فإن
المعاني إذا لاحت، لم يحسن بطالب التحقيق تضييع الأوقات في تحرير العبارة عنها، والأوقات
أنفس من التنافس في ذلك»[49].
قلت: وقد لاح المعنى، وتبين المقصود من
النسخ، فلا فرق بين هذه التعاريف ما دامت تؤدي الغرض من وضعها، إلا أن يكون هناك
تعريف شاذ أو بعيد فحينها يجب بيان الزيف فيه، والله أعلم.
[7] - القفال الشاشي (291-365 هـ): الإمام العلامة
الفقيه الأصولي، عالم خراسان، أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي الشافعي
القفال الكبير، له كتاب: دلائل النبوة، ومحاسن الشريعة ( أنظر سير اعلام النبلاء
16/283 ).
[11] - قال الرازي في المحصول 3/287، عن معنى الرفع:
"أن خطاب الله تعالى تعلق بالفعل بحيث لولا طريان الناسخ لبقي، إلا أنه زال
لطريان الناسخ".
[12] - ومعنى كونه بيانا:" أن الخطاب الأول
انتهى بذاته في ذلك الوقت، ثم حصل بعده حكم آخر" المحصول 3/287.
[48] - أصول السرخسي 2/54، وانظر الكافي شرح البزدوي
3/1492-1493، والمغني ص: 250-251، والوجيز ص: 63، وفواتح الرحموت 2/54-55.
0 التعليقات: