إعلان أفقي

السبت، 31 أغسطس 2013

إطلاق الجرح والتعديل دون ذكر السبب

Posted by mounir  |  at  أغسطس 31, 2013


أولا: صورة المسألة

يعتبر مبحث الجرح والتعديل من أهم المباحث الحديثية التي ينبني عليها الحكم على مجموعة من الأحاديث بالصحة والضعف، وذلك اعتمادا على أحوال رواة ذلك الحديث جرحا وتعديلا.
وبناء عليه، فقد اختلف المحدثون والأصوليون في إطلاق الجرح والتعديل أو أحدهما بدون ذكر السبب، هل يقبل أم لا ؟

ثانيا: سبب الخلاف في هذه المسألة

ذكر الزركشي أن سبب الخلاف يعود إلى اختلافهم في المعدل أو المجرح، هل هو مخبر فيصدَّق، أم هو حاكم ومفت فلا يقلد ؟[1]

ثالثا: مذاهب العلماء في إطلاق الجرح والتعديل

أ – مذهب الباقلاني
اختلف العلماء في تحقيق مذهب القاضي إلى قولين:
الأول: نقله عنه الإمام في "البرهان" وهو مسيره إلى أن «إطلاق الجرح كاف، فإنه يخرم الثقة، وهي المعتبرة، وإطلاق التعديل لا يُحصِّل الثقة، حتى يستند إلى أسباب ومباحثات»[2]، مقتضى ذلك أن الجرح يقبل من غير ذكر السبب، بخلاف التعديل فيجب التنصيص فيه عليه.
الثاني: إلا أن الكثير من العلماء نقلوا عن القاضي خلاف هذا المذهب، حيث نسبوا إليه عدم اشتراط ذكر السبب سواء في الجرح أو التعديل، بشرط أن يكون المعدل أو المجرح بصيرا بهذا العلم، قال المازري:«والأشهر عن القاضي عندنا أنه يرى ترك المكاشفة في التعديل والتجريح إذا وثق بعلم المعدل والمجرح، وعرف كونهما عارفين بأسباب التعديل والتجريح»[3].
وهذا المذهب الذي نص عليه المازري، هو ظاهر كلام القاضي في "التلخيص" حيث قال الإمام بصريح العبارة:« والذي اختاره القاضي رضي الله عنه أن ذلك – أي اشتراط التعديل أو الجرح المفسر – لا يشترط في العدل إذا عدل ولا إذا جرح»[4]. بل إن القاضي في التلخيص قد وصف القائلين باشتراط بيان أسباب التعديل بقوله: «وذهب شرذمة إلى اشتراط الشرح في ذلك – أي في تفسير وجه التعديل -»[5].
وبعد هذا يتبن أن ما نسبه الإمام في "البرهان" إلى القاضي لا يستقيم، بل الثابت عنه العكس كما في "التلخيص"، ونحن لا نستطيع الآن أن نقف على ما قاله في هذه المسألة في "التقريب" لأن الجزء المطبوع منه غير كامل كما سبقت الإشارة إلى ذلك في التمهيد، لكننا وجدنا الكثير من الأئمة ينسبون إليه هذا الذي نقلناه عنه في "التلخيص" ويوافقون المازري على أن نسبة هذا المذهب إليه وهْم كما نص على ذلك الزركشي في "البحر المحيط"[6]، وقد ذكر هناك أن هذا المذهب المذكور هو ما نص عليه القاضي في "التقريب".
وممن نسب إلى القاضي قوله بعدم وجوب ذكر سبب الجرح والتعديل إذا كانا من عالم بهذا الشأن، الغزالي[7]، والرازي[8]، والآمدي[9]، وابن الحاجب[10]، والببيضاوي[11]، والسيوطي[12]، والشوكاني[13]، كما ذكر الخطيب بسنده إلى القاضي قوله: إن الجمهور من أهل العلم على أنه إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن[14].
ب – مذهب الجويني
ذهب إمام الحرمين إلى أن المعدل أو المجرح إذا كان عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه فيهما دون بحث وسؤال، لأننا نعلم أنه لم يطلق ذلك إلا عن بحث واستفراغ وسع، وأما من لم يكن من أهل هذا الشأن استخبرناه عن أسبابهما[15].
ج – حقيقة مذهب الإمامين: الباقلاني والجويني
قال السبكي معلقا على مذهب الإمام:« ويشبه أن لا يكون هذا مذهبا خامسا[16] لأنه إذا لم يكون عارفا بشروط العدالة لم يصلح للتزكية»[17]. وبيان ذلك أن هذا المذهب هو نفسه ما نقله الأئمة عن القاضي، من أنه اشترط أن يكون المجرح أو المعدل عالما بهذا الشأن، فإن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية وإن كان بصيرا به فلا معنى للتزكية، كذا ذكر كل من السبكي[18] والزركشي[19] وصاحب "فواتح الرحموت"[20].
والذي يظهر من كلام القاضي في "التلخيص" أنه هو نفسه مذهب الإمام في "البرهان"، فلا فرق بينهما في المعنى وإن اختلفت عباراتهما، فإن قصدهما يؤول إلى اعتبار العلم بهذا الفن في قبول الجرح والتعديل مطلقا دون قيد، أما من لم يكن من أهل هذا الشأن فلا عبرة بتجريحه أو تعديله.
فتبين إذن أن مذهب القاضي والإمام واحد لا فرق بينهما.
واختار هذا المذهب كل من الخطيب البغدادي[21]، الغزالي[22]، والرازي[23]، والآمدي[24]، وذكر السيوطي في "تدريب الراوي" أن القاضي نقله عن الجمهور[25].
د – مذهب القائلين بوجوب بيان السبب في الجرح والتعديل معا:
ذهب بعض الأصوليين إلى وجوب بيان أسباب الجرح والتعديل معا أخذا بمجامع كلام الفريقين[26]، واختار هذا الرأي الشوكاني في "إرشاد الفحول" فقال:« والحق أنه لابد من ذكر السبب في الجرح والتعديل، لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحا، وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلا، ولا سيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع»[27].
هـ - مذهب الجمهور
ذهب الجمهور[28] من الأئمة إلى أن التعديل يقبل من غير سبب، بخلاف الجرح، فإنه لا يقبل من أحد حتى يبين وجه تجريحه، لأن أسباب التعديل كثيرة يصعب ذكرها وحصرها، فيقال عن فلان: إنه يصلي ويزكي ويصوم ويتصدق ويفعل الخيرات ويصل الرحم وغير ذلك مما لا ينضبط، بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد، للاختلاف في سبب الجرح، إذ أن المجرح قد يقدح في راو بما يعتبره هو قادحا، ولكنه في حقيقة الأمر ليس بقادح.
وإلى هذا ذهب الشافعي[29]، وصوبه الخطيب البغدادي في "الكفاية"[30] ونسبه إلى الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري وغيرهما، وهو مذهب ابن حزم[31] وابن الصلاح[32]، والشيرازي[33]، والزركشي[34]، والسيوطي[35].
واختار الحافظ ابن حجر في ذلك تفصيلا حسنا، فبين أن قيد قبول الجرح مفسرا إنما هو خاص في حق من ثبتت عدالته، أما من لم يعدل أو يجرح فيقبل الجرح فيه وإن كان مجملا بشرط أن يكون صادرا عن عارف بهذا الشأن، فقال:«... فإن خلا المجروح عن التعديل قبل الجرح فيه مجملا، غير مبين السبب إذا صدر من عارف على المختار، لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله»[36].

رابعا: الموازنة بين هذه الآراء

المختار في هذا البحث هو مذهب الجمهور القاضي بقبول التعديل من غير ذكر سببه، خلافا للجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا، لاختلاف الناس في أسباب الجرح، فقد يجرَّح الراوي بما ليس جرحا في حقيقة الأمر، كمن يقدح في راوٍ بسبب تركه أمرا هو في مذهب المجَرِّح واجب وتركه حرام، بينما هو في مذهب المجرَّح مستحب، أما التعديل فإن تعداد موجباته يطول لكثرة أسبابه وتشعبها لذلك قبل من غير ذكر السبب.والله أعلم.


[1]  - البحر المحيط 4/293.
[2]  - البرهان 1/400.
[3]  - إيضاح المحصول ص:477.
[4]  - التلخيص 2/366.
[5]  - التلخيص 2/365.
[6]  - البحر المحيط 4/294.
[7]  - المستصفى 1/162-163.
[8]  - المحصول 4/410.
[9]  - الإحكام للآمدي 2/106.
[10]  -  المنتهى ص: 79.
[11]  -  أنظر الإبهاج 2/321.
[12]  - أنظر تدريب الراوي 1/361-362.
[13]  - إرشاد الفحول 1/331.
[14]  - أنظر الكفاية ص:107.
[15]  - انظر البرهان 1/400، والإبهاج 2/322، والبحر المحيط 4/294-295.
[16]  - على اعتبار أنه وقع في المرتبة الخامسة من المذاهب التي ذكرها السبكي.
[17]  - الإبهاج 2/322.
[18]  - أنظر الإبهاج 2/322.
[19]  - أنظر البحر المحيط 4/294.
[20]  - أنظر فواتح الرحموت 2/151.
[21]  - الكفاية ص: 107-108.
[22]  - المستصفى 1/163.
[23]  - المحصول 4/410.
[24]  - الإحكام 2/106.
[25]  - تدريب الراوي 1/362.
[26]  - أنظر الإبهاج 2/321، والبحر المحيط 4/294.
[27]  - إرشاد الفحول 1/332.
[28]  - أنظر إيضاح المحصول ص: 476، وفواتح الرحموت 2/151.
[29]  - المنتهى ص:79، والمحصول 4/409، والإحكام للآمدي 2/106، والبحر المحيط 4/294، والمسودة ص: 186.
[30]  - الكفاية ص: 108.
[31]  - الإحكام لابن حزم 1/146.
[32]  - علوم الحديث ص: 86.
[33]  -  شرح اللمع 2/642.
[34]  - البحر المحيط 4/293.
[35]  - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث 1/285.
[36]  - نزهة النظر ص:114.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى