إعلان أفقي

السبت، 31 أغسطس 2013

العدد المعتبر في التواتر

Posted by mounir  |  at  أغسطس 31, 2013


أولا: صورة المسألة

هذه المسألة قد اشتهر فيها الخلاف بين المحدثين والأصوليين، حيث تنازعوا في العدد المعتبر في الرواة لكي يحكم على حديث ما بأنه قد بلغ درجة التواتر. فتمسك كل قوم بما اعتبروه مستندا شرعيا ودليلا يستأنس به في تحديد هذا العدد، فمن عينه مثلا بالأربعة استند إلى عدد الشهود في الزنا، ومن قال ثلاث مائة وثلاثة عشر اعتمد على عدد رجال بدر وهكذا[1]. و منهم من لم يشترط العدد، واكتفى بالجمع الذين تحيل العادة تواطؤهم على الكذب وهذا قول الجمهور من المحدثين والأصوليين كما سيأتي.

ثانيا: مذاهب العلماء

أ – مذهب الباقلاني
اشترط القاضي في العدد المفضي إلى التواتر أن يزيد على الأربعة، حيث ذكر رحمه الله أن من أوصاف أهل التواتر الذين يعلم صدقهم اضطرارا:« أن يزيد عددهم على الأربع، فلو كانوا أربعا فما دونه لم يقع العلم الضروري بأخبارهم»[2]، ومستنده في ذلك أنا « وجدنا الأربعة فما دونهم يشهدون في الخصومات ومفاصل القضاء ولا يثبت للمشهود لديه العلم الضروري بصدقهم مع إخبارهم عما شاهدوه وعاينوه»[3].
ويبين حقيقة هذا المذهب ما ذكره الفراء من أن « خبر الأربعة لو جاز أن يكون موجبا للعلم لوجب أن يكون خبر كل أربعة موجبا ، ولو كان هكذا لوجب إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة، ويكون ما ورد به الشرع من السؤال عن عدالتهم باطلا»[4].
وهو رحمه الله وإن كان يشترط في العدد أن يكون أكثر من أربعة، فإنه لم يضع حدا لأقله، فقال:«فخرج مما قدمناه أن أقل عدد التواتر مما لا ينضبط، ولا يدل على عدد بعينه دلالة عقلية ولا دلالة سمعية، وقد أوضحنا فساد كل تقدير قال به أحد العلماء»[5].
والقول باشتراط زيادة العدد على أربعة هو قول أبي يعلى الفراء[6] وأبو الطيب الطبري[7] من الحنابلة[8]، والجبائي[9] من المعتزلة، ونسبه السمعاني إلى أكثر الشافعية وحسنه[10]، وكذا فعل السبكي[11].
والقاضي وإن اتفق مع من ذكرنا في اشتراط زيادة العدد على الأربعة، فإنه قد انفرد بالتوقف في الخمسة، فلم يقطع بأن إخبار الخمسة يوجب العلم كما لم ينف ذلك[12]، وأكثر من وافقوه على هذا العدد –أي الأربعة – لم يترددوا بل قالوا: إن الخمسة صالحة على حسب الوقائع والأحوال[13].
ب – مذهب إمام الحرمين
ذهب الإمام إلى أن الحكم على الحديث بالتواتر لا يتوقف على عدد محدود، فإذا ثبتت قرائن تدل على صدق المخبرين، أفضى ذلك إلى العلم الضروري بصدق الخبر، فالعدد ليس شرطا في التواتر، ولكنه قرينة على صدق الخبر إذا احتفت به قرائن أخرى، فالعدد بالنسبة للإمام هو قرينة من القرائن كغيره[14]، حيث قال: «لا يتوقف حصول العلم بصدق المخبرين على حد محدود، وعدد معدود، ولكن إذا ثبتت قرائن الصدق، ثبت العلم به»[15].
 بل يتعدى ذلك رحمه الله ويقرر تبعا للنَّظَّام المعتزلي أن خبر الواحد قد يقترن في بعض الأحوال بقرائن يفضي معها إلى العلم اليقيني بصدق المخبر، وضرب مثلا على ذلك ليقرب هذا المعنى من الأفهام فقال:« فإذا وجدنا رجلا مرموقا عظيم الشأن، معروفا بالمحافظة على رعاية المروءات، حاسرا رأسه، شاقا جيبه، حافيا، وهو يصيح بالثبور والويل، ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده، وشُهِدت الجنازة، ...، فهذه القرائن وأمثالها، إذا اقترنت بإخباره تضمنت العلم بصدقهن مع القطع بأنه لم يطرأ عليه خبل ولا جِنَّة. والذي ذكره النظَّام ما أراه إلا في مثل هذه الصورة »[16].
والقول بأن القرائن إذا احتفت بخبر الواحد قد يفيد العلم قال به الغزالي[17]، والرازي في " المعالم في علم أصول الفقه"[18]، و"المحصول"[19].
ج – مذهب الجمهور
يتفق قول الجمهور مع قول الإمام في عدم اشتراط عدد محصور في نقلة الخبر للحكم عليه بالتواتر، ولكنهم يفارقونه في خبر الواحد إذا احتفت به القرائن، لأن ألفاظهم وعباراتهم تدل على أنهم يشترطون العدد ابتداء، ولكنهم لا يقيدونه بحد مخصوص، فمتى توفر فيهم حد يعلم عند مشاهدتهم بمقتضى العادة استحالة اتفاقهم على الكذب، فليس هناك عدد معين لتحقيق هذا الشرط، قال الخطيب البغدادي:«فأما خبر التواتر، فهو ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدا يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذر، ...»[20]، وقال الشيرازي:« وليس في التواتر عدد محصور، بل يجب أن ينقله عدد لا يصح منهم التواطؤ على الكذب في العادة»[21].
فالجمهور إذن يشترطون العدد والكثرة[22] بالإضافة إلى القرائن التي تبين عدم إمكان اتفاق هذا العدد على الكذب، وبالتالي فإن «المتواتر لا يتعلق بعدد محصور، بل إذا حصل العلم، علم كمال عدد التواتر، وإذا لم يحصل علم أنه لم يكمل»[23].
 بينما ينفرد عنهم الإمام بجعل الكثرة قرينة من القرائن مثلها مثل غيرها، وعن اشتراط الكثرة يقول ابن حجر:« وتلك الكثرة أحد شروط التواتر إذا وردت بلا حصر عدد معين، بل تكون العادة قد أحالت تواطؤهم على الكذب... فلا معنى لتعيين العدد على الصحيح»[24]، وقال الشيرازي أيضا:«فدل على أن الاعتبار بما ذكرنا، وهو الجماعة التي لا يصح منها التواطؤ»[25].
والقول بعدم اشتراط عدد معين صححه السمعاني في "قواطع الأدلة" وإن كان حسن المذهب الأول الذي اشترط أن لا يقل العدد على أربعة[26]، وصوبه الرازي في "المحصول"[27]، واختاره الأسنوي[28]، وصححه ابن الحاجب[29]، ونسبه الزركشي[30] والشوكاني للجمهور[31].
قال الزركشي:«فالحق عدم التعيين، مع القطع بأنه لابد من عدد يحصل بخبرهم العلم»[32].
د – مذهب ابن حزم
ذهب ابن حزم إلى أن نقل الاثنان العدلان إذا احتفت به القرائن فإنه يوجب العلم، فجعل أقل عدد يفضي إلى التواتر هو الاثنان فأكثر، قال:«إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك، وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا، ولا دسَّا، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا بيه، ولا رهبة منه، ولم يعلم أحدهما بالآخر، فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه، بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله، ...، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه، ويقطع على غيبه»[33].
هـ - باقي المذاهب
لقد ذكر العلماء في مصنفاتهم عدة مذاهب أخرى في تحديد العدد المفضي إلى التواتر، واعتبروا أنها لا تستند إلى سند شرعي، ولا إلى حجة عقلية أو سمعية، ومن تلك المذاهب:
-         أن الخبر لا تقوم به الحجة حتى يقوم بنقله عشرون من المؤمنين، وهو قول العلاف وغيره.
-         وقيل لا تقوم الحجة إلا بنقل السبعين.
-         وقيل بنقل الثلاث مائة وثلاث عشرة.
-         وذهب معظم الروافض إلى اشتراط قول الإمام المعصوم.
وهناك غيرها من المذاهب التي لا تقوم عليها حجة ولا تستند في تحريرها على برهان[34].

ثالثا: الموازنة بين المذاهب

من خلال النظر في أدلة الفريقين، يتبين أن القائلين بحصر العدد في حد محدود لا يستندون إلى دليل، فغاية ما يحتجون به أحاديث وآيات بعيدة عن محل النزاع، فالصحيح إذن هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم اشتراط عدد معين. ويبقى الضابط في الحكم على هذه الجماعة التي تنقل الخبر هو عدم تواطئهم على الكذب من جهة، وحصول العلم بخبرهم من جهة أخرى، فإذا ترجح في خاطر السامع أن المخبرِين صادقِين قطعا، علمنا أن هذا العدد الذي أفضى بالمتلقي إلى القطع بصدق الخبر قد بلغ عدد التواتر، لما احتفت به من قرائن جعلته يبلغ مرتبة اليقين، وقد يكون نفس هذا العدد أو أكثر قاصرا عن درك هذه المرتبة في مواطن أخرى حيث لا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
وعليه، فلا مانع من إدخال الصورة التي ذكرها ابن حزم في حيز التواتر، رغم أن العدد مقتصر على الاثنين فقط، لأن الحالة التي وصف بها المخبرَيْن، تستحيل معها تواطؤهما على الكذب، وبالتالي فقد حصل العلم بخبرهما، وتيقن السامع صدق قولهما، فكيف لا تكون – والحالة هذه – صورة من صور التواتر المفضي إلى القطع. والله اعلم.


[1]  - أنظر نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص: 24، والبرهان 1/370، والمسودة ص: 164.
[2]  - التلخيص 2/288، وانظر 2/294-299-306، والبرهان 1/370-372.
[3]  - التلخيص 2/289-290.
[4]  - العدة 3/856، وانظر المسودة ص:164.
[5]  - التلخيص 2/307.
[6]  - أنظر العدة 3/856.
[7]  - أبو الطيب الطبري (348-450 هـ ) الإمام العلامة شيخ الإسلام، القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري الشافعي، فقيه بغداد، من تصانيفه: شرح المختصر، وفروع ابن حداد ( أنظر سير أعلام النبلاء 17/668 ).
[8]  - المسودة ص: 164.
[9]  - شرح اللمع 2/574، والمسودة ص: 164.
[10]  - قواطع الأدلة 2/240.
[11]  - أنظر رفع الحاجب 2/302، بينما نسبه في جمع الجوامع ص:65 إلى الشافعية مطلقا.
[12]  - أنظر التلخيص 2/306، والبرهان 1/370، وجمع الجوامع ص: 65، والإحكام للآمدي 2/35.
[13]  - رفع الحاجب 2/302.
[14]  - أنظر إيضاح المحصول ص: 424.
[15]  - البرهان 1/374.
[16]  - البرهان 1/374، وهو نحو ما استدل به النظَّام كما نقل عنه ذلك أبو الحسين البصري في "المعتمد" 2/566.
[17]  - المستصفى 1/136.
[18]  - المعالم في علم أصول الفقه للرازي ص: 135.
[19]  - المحصول 4/284، وعبارته هنا هي :«المختار أن القرينة قد تفيد العلم،...، فثبت أن الذي قاله النظام حق».
[20]  - كتاب الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص:16.
[21]  - شرح اللمع 2/574.
[22]  - واشتراط الكثرة في رواة الخبر المتواتر نسبه المازري إلى المحققين.(أنظر إيضاح المحصول ص: 425).
[23]  - شرح الورقات  للفزاري ص: 284، وانظر التحبير 4/1782.
[24]  - نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص: 24.
[25]  - شرح اللمع 2/574.
[26]  - أنظر قواطع الأدلة 2/240، وعبارته هناك هي:« والأولى أن لا يقع الالتفات إلى عدد ما سوى أن يعتبر أن يكون أكثر من أربعة لما ذكره الأصحاب. وإن قيل إن هذا العدد لا يعتبر أيضا لكن يعتبر وجود العلم بخبر المخبر بما يتصل به من شاهد الحال، فهو صحيح أيضا على ما سبق بيانه. والأحسن ما قاله أكثر الأصحاب».
[27]  - المحصول 4/265.
[28]  - أنظر منتهى السول في علم الأصول للسنوي ص: 77.
[29]  - المنتهى ص:70.
[30]  - البحر المحيط 4/232.
[31]  - إرشاد الفحول 1/244.
[32]  - البحر المحيط 4/234.
[33]  - الإحكام لابن حزم 1/107.
[34]  - أنظر هذه المذاهب في : التلخيص 2/300 وما بعدها، والإبهاج 2/292 وما بعدها، والبحر المحيط 4/232 وما بعدها، وفواتح الرحموت 2/116 وما بعدها، وإرشاد الفحول 1/244 وما بعدها،وغيرهم.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

هناك تعليق واحد:

  1. قال الشنقيطي – يرحمه الله – وبطلان القول بالأربعة فما دونها واضح؛ لوجوب تزكية الأربعة في شهادتهم على الزنا

    ردحذف

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى