إعلان أفقي

السبت، 31 أغسطس 2013

تخصيص القرآن بخبر الآحاد

Posted by mounir  |  at  أغسطس 31, 2013


أولا: صورة المسألة

إذا ورد لفظ عام في القرآن الكريم، ثم ورد في السنة النبوية ما يخصصه، لكن هذا الخبر المخصص وإن صح فهو عبارة عن آحاد وليس بمتواتر، ونحن نعلم أن خبر الآحاد ظني الثبوت، حيث لا نقطع بنسبته إلى قائله عليه السلام، فإذا جاء بما يخصص به لفظ عام من كتاب الله القطعي الثبوت، فهل يصح القول بالتخصيص في هذه الحالة أم لا؟
ويجب التنبيه إلى أن الخلاف في هذه المسألة يجري على تخصيص السنة المتواترة بالآحاد كما يجري على تخصيص القرآن بخبر الآحاد كما نص على ذلك الجويني[1].

ثانيا: تحرير محل النزاع

حرر السمعاني محل الخلاف في هذه المسألة، حيث ذكر أن أخبار الآحاد ضربان:
أحدهما: ما اجتمعت الأمة على العمل به، كقوله عليه السلام:«لا ميراث لقاتل»[2]، و« لا وصية لوارث»[3]، وكنهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وابنة أخيها أو ابنة أختها[4]، فيجوز تخصيص العموم به، ويصير ذلك كتخصيص هذا العموم بالسنة المتواترة، لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواترة، لانعقاد الإجماع على حكمها وإن لم ينعقد الإجماع على روايتها.
وأما الضرب الثاني من الآحاد: وهو ما لم تجمع الأمة على العمل به، فهي المسألة التي اختلف العلماء فيها[5].

ثالثا: سبب الخلاف في المسألة

ذكر المازري أن سبب الخلاف في المسألة يعود إلى نكتة واحدة، وهي الموازنة بين العموم وخبر الواحد، فإذا وازنت بينهما، واستبان قوة أحدهما على الآخر قدمت الراجح، وإن لم يظهر تفاوت في القوة ولا ظهور رجحان، فلا شك هاهنا في أنه ليس أحدهما أولى من الآخر فيجب الوقف بينهما[6].

رابعا: مذاهب العلماء

أ – رأي القاضي
اتفق أهل الأصول على نسبة القول بالوقف للقاضي، وقد دلت عباراته الصريحة في "التقريب والإرشاد" على ما نقله عنه الأصوليون، حيث قال رحمه الله: « والذي نختاره من ذلك أنه لا حجة عندنا قاطعة على وجوب التعبد بالعمل بخبر الواحد وإن عارضه العموم، ولا على وجوب العمل بجميع مقتضى العموم وإن عارض بعضه خبر الواحد، بل الواجب الحكم بالتقابل »[7].
ب – مذهب الجويني ( مذهب الجمهور )
ذهب الإمام إلى جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد الثقة، فقال:« والذي نختاره: القطعُ بتخصيص الكتاب بخبر الواحد»[8].
وهذا الذي ذكرنا هو قول الجمهور من الفقهاء والأصوليين[9]، ونسبه القرافي في " العقد المنظوم في الخصوص والعموم" للشافعية والحنابلة والأحناف[10]، وفي هذا الإطلاق نظر، وإنما هو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الأحناف لمخالفة بعض علماء هذه المذاهب كما سيأتي. ونسبه الآمدي وابن الحاجب للأئمة الأربعة[11]. بينما نسبه الرازي للشافعي ومالك وأبي حنيفة[12]، واختاره أبو الحسين البصري من المعتزلة[13].
ج – مذهب المنع
ذهب البعض إلى عدم جواز تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد[14]، وقد نسبه الشيرازي في "شرح اللمع" إلى بعض الشافعية[15]، كما ذكر السمعاني أنه مذهب بعض المتكلمين من المعتزلة وشرذمة من الفقهاء[16]. ونسبه الزركشي[17] والشوكاني[18] نقلا عنه لبعض الحنابلة.
د – باقي المذاهب
نقل أصحاب الأصول مذاهب أخرى في هذه المسألة تتلخص فيما يلي:
1 – ذهب أبان بن عيسى إلى أن العموم إن دخله التخصيص بطريق يقطع به جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإن لم يدخله التخصيص أصلا فلا يجوز افتتاح تخصيصه بخبر الواحد[19]، فهو يفرق هنا بين ما دخله التخصيص من وجه آخر فيجوز تخصيصه بخبر الواحد لأن الوجه الأول قد أضعف دلالته على العموم، وبين ما لم يدخله التخصيص فيبقى على حقيقته وقوته في الدلالة على العموم[20]، وقد اختلف في تحقيق مذهبه كما أشار إلى ذلك  السبكي في "الإبهاج"[21]، والزركشي في "البحر المحيط"[22].
ونسب أبو يعلى الفراء هذا القول إلى أصحاب أبي حنيفة[23]، كما ذكر التلمساني أنه مذهب المحققين منهم[24]. جاء في "فواتح الرحموت": « لا يجوز عند الحنفية تخصيص الكتاب بخبر الواحد وكذا تخصيص السنة المتواترة بخبر الواحد، ما لم يخص بقطعي دلالة وثبوتا»[25].
2 – ذهب الكرخي[26] إلى أن التخصيص إن كان بدليل منفصل جاز، وإن كان بمتصل فلا، لأن تخصيصه بمنفصل يصيره مجازا فتضعف دلالته[27].
3 – هناك من ذهب إلى جواز التعبد بتخصيص العموم بخبر الواحد وعدمه عقلا، ويجوز أن يَرد، لكنه لم يقع[28]. وحكى القاضي هذا المذهب وأضاف قولهم: إنه قد ورد المنع فيه[29]. قال السبكي معلقا على هذا الرأي:« وهذا أيضا قول بالوقف»[30].

خامسا: الموازنة بين هذه الأقوال

من خلال النظر في أدلة أصحاب هذه المذاهب، والموازنة بين أقوالهم، يتبين لنا بجلاء وجاهة وصحة قول الجمهور بجواز تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة، لما في ذلك من إعمال للدليلين معا، ولجريان عمل السلف من الصحابة على الرجوع إلى الخبر الناص الذي ينقله موثوق به في تفسير مجملات الكتاب، وتفسير ظواهره كما ذكر ذلك إمام الحرمين[31]. والله أعلم.

سادسا: ثمرة الخلاف في هذه المسألة

قال التلمساني في مفتاح الوصول:
«مثاله: ما احتج به أصحابنا – أي المالكية – على حل ميتة البحر، بقوله صلى الله عليه وسلم:« هو الطهور ماؤه والحل ميتته»[32]. فيقول أصحاب أبي حنيفة: هذا معارض بقوله تعالى:{ إنما حرم عليكم  الميتة}[33]، ولما لم يتقدم فيه تخصيص من غير هذا الخبر لم يجز تخصيصه بهذا الخبر، ولا يقال: إن قوله تعالى:{ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه }[34] مخصص له، لأنا نقول: إنما خصص ضمير الخطاب في قوله: { عليكم } لا الميتة.
والجواب عند أصحابنا: أن خبر الواحد يخصص عموم القرآن عندنا، لأنه ظاهر في أفراده، وليس بنص فيها، فتخصيصه به جمع بين الدليلين»[35].


[1]  - أنظر البرهان 1/287.
[2]  - الحديث رواه الترمذي في كتاب الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل، رقم: 2109، بلفظ: « القاتل لا يرث»، وقال الترمذي هناك: «هذا حديث لا يصح، لا يعرف إلا من هذا الوجه، ...، والعمل على هذا عند أهل العلم، أن القاتل لا يرث، كان القتل عمدا أو خطأ، وقال بعضهم: إذا كان القتل خطأ فإنه يرث، وهو قول مالك»، ورواه ابن ماجة في كتاب الديات، باب: القاتل لا يرث، برقم: 2695، و كتاب الفرائض، باب: ميراث القاتل، رقم: 2735، والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي 2/424، وصحيح ابن ماجة 2/347.
والحديث خص به قوله تعالى:{ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} – النساء: 11 - ، وهذا الحكم محل إجماع بين العلماء فيما إذا كان القتل عمدا كما ذكر ذلك ابن عبد البر في كتاب "الإجماع" ص: 241.
[3]  -  رواه الترمذي في كتاب الوصايا، باب: ما جاء "لا وصية لوارث"، رقم 2120، وابن ماجة في كتاب الوصايا، باب: لا وصية لوارث، رقم: 2712، والنسائي، كتاب الوصايا، باب: إبطال الوصية للوارث، رقم: 2641، وغيرهم، والحديث صححه الألباني. أنظر: صحيح سنن النسائي 2/553، وصحيح سنن الترمذي 2/429، وصحيح سنن ابن ماجة 2/366.
والمخصوص هنا هو قوله تعالى: { الوصية للوالدين والاقربين} – البقرة:180 -، حيث إن بعض العلماء اعتبروا أنها ليست منسوخة، ولكنها مخصوصة بآية الفرائض وبهذا الحديث، وبقي حق من لا يرث من الأقربين من الوصية على حاله، وهذا مذهب طاووس وغيره كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري 5/373. 
وجمهور العلماء على أن آية الوصية منسوخة بآية الفرائض، على اختلاف بينهم في الناسخ، فقيل آية الفرائض، وقيل الحديث المذكور، وقيل الإجماع،.( أنظر فتح الباري 5/373).
أما الإجماع على أنه لا وصية لوارث فقد نقله ابن عبد البر في كتاب الإجماع ص: 232-233.
[4]  - الحديث رواه البخاري، كتاب النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، برقم: 5108-5109-5110، ومسلم، كتاب النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، رقم: 1408.
والمخصوص بهذا الحديث قوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم } – النساء: 24 - ، (أنظر شرح صحيح مسلم للنووي 9/191، وفتح الباري 9/163). وقال الشيرازي في شرح اللمع 1/353: عن المخصوص بالحديث هو قوله تعالى في سورة النساء الآية 3 : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء}.
[5]  -  قواطع الأدلة 1/365-367.
[6]  - أنظر إيضاح المحصول ص: 318-319.
[7]  - التقريب والإرشاد 3/185-186، وانظر التلخيص 2/109-110.
[8]  - البرهان 1/286، وانظر الورقات ص: 17 فقد أطلق جواز تخصيص الكتاب بالسنة ولم يقيدها بالتواتر أو غيره.
[9]  - أنظر: الإشارة في معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل للباجي ص: 199-200، وقواطع الأدلة 1/368، وإيضاح المحصول ص: 318، ومفتاح الوصول ص: 73، وجمع الجوامع للسبكي ص: 51، وشرح صحيح مسلم للنووي 9/191، والبحر المحيط 3/364، وفتح الباري 9/163، وإرشاد الفحول 2/685 وغيرهم.
[10]  - أنظر العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي 2/316.
[11]  - الإحكام للآمدي 2/394، والمنتهى لابن الحاجب ص: 131.
[12]  - المحصول 3/85.
[13]  - المعتمد 1/275.
[14]  - أنظر التقريب والإرشاد 3/184، والتلخيص 1/107، والبرهان 1/285.
[15]  - شرح اللمع 1/351-352.
[16]  - قواطع الأدلة 1/368، وانظر العدة 2/552.
[17]  - البحر المحيط 3/365.
[18]  - إرشاد الفحول 2/681.
[19]  - التلخيص 1/108، وانظر التقريب والإرشاد 3/185، وشرح اللمع 1/352، وقواطع الأدلة 1/368.
[20]  - أنظر البحر المحيط 3/365.
[21]  - أنظر الإبهاج 2/173.
[22]  - أنظر البحر المحيط 3/365-367.
[23]  - أنظر العدة 2/551، وقال ابن تيمية في المسودة ص: 91:« وقالت الحنفية: إن كان قد دخله التخصيص بمسألة إجماعية، جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا»
[24]  - أنظر مفتاح الوصول ص: 73.
[25]  - أنظر فواتح الرحموت 1/349.
[26]  - أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي (260-340 هـ)، الشيخ الإمام الزاهد مفتي العراق، شيخ الحنفية، انتهت إليه رياسة المذهب، وانتشرت تلامذته في البلاد، واشتهر اسمه، وبعد صيته، وكان من العلماء العباد، ذا تهجد، وصبر على الفقر والحاجة، وكان رأسا في الاعتزال الله يسامحه ( أنظر سير أعلام النبلاء 15/426 ).
[27]  - أنظر الإبهاج 2/172، والبحر المحيط 3/367، والمحصول 3/85، والإحكام للآمدي 2/394.
[28]  - أنظر الإبهاج 2/172، والبحر المحيط 3/367.
[29]  - التقريب والإرشاد 3/184.
[30]  - الإبهاج 2/172.
[31]  - أنظر البرهان 1/286.
[32]  - رواه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء، برقم 41، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، رقم 69، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، الحديث رقم 83، وابن ماجة في كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر، برقم: 386، وغيرهم. وصححه الألباني، أنظر: صحيح سنن الترمذي: 1/55، وصحيح سنن أبي داود 1/33، وصحيح سنن ابن ماجة 1/135.
[33]  - سورة البقرة الآية 173.
[34]  - سور البقرة الآية 173.
[35]  - مفتاح الوصول إلى علم الأصول ص: 73.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى