أولا: صورة المسألة
إذا أراد المقلد أن يستفتي غيره في حكم
من الأحكام الشرعية، فلا شك أنه سيبحث عن إمام مجتهد ثقة عدل ضابط كي يقلده
ويستأمنه في دينه، وبناء عليه، اختلف الأصوليون في الطرق التي يجب عليه سلوكها كي
يختار من يقلده أو يستفتيه على مذاهب.
ثانيا: مذاهب العلماء في المسألة
أ – رأي القاضي
تعددت النقول والآراء في تحصيل مذهب
القاضي في هذه المسألة، فالذي في "التلخيص" وحده ثلاثة أقوال[1]:
الأول: أن يسأل عن أحوال العلماء، فإذا
تقرر لديه بقول الأثبات والثقات أن الذي يستفتي منهم بالغ مبلغ الاجتهاد، فيستفتيه
حينئذ.
الثاني: أن يخبره بذلك عدلان، فيجوز له
الاعتماد على شهادتهما بأن فلانا علم مجتهد.
الثالث: لا يستفتي إلا من استفاضت
الأخبار عن بلوغه مبلغ الاجتهاد.
وأما ما نقله عنه الإمام في
"البرهان" فيمكن اعتباره مذهبا رابعا، وذلك قوله: « قال القاضي في
"التقريب": عليه أن يتلقف مسائل من كل فن مما يحتاج المفتي إلى معرفته
من الأحاديث وغرائبه، والقرآن ومشكلاته، ومسائل الفقه، فيمتحن من يوقع تقليده به،
فإن أصاب في الكل قلده، وإن أخطا فيه أو في البعض، وقف في اتباعه، ولابد أن يخبره
عدلان بأنه مجتهد»[2].
ب- مذهب الإمام
قال الإمام: «لعل المختار أن المفتي
إذا قال: أنا مفت صدق إن كان عدلا، واتبع»[3]. وقد
نسب هذا القول إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك[4].
ج – مذهب الغزالي
وضع الغزالي عدة احتمالات يمكن أن يعرف
من خلالها المستفتي حال العالم المجتهد، منها: أنه يحتمل أن يقال ظاهر حال العالم
العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتوى، ومنها أنه في حالة سؤاله عن عدالة المفتي أو
علمه، فيحتمل أن يفتقر إلى التواتر، كما يحتمل أن يكتفي بغلبة الظن الحاصل، وبقول
عدل أو عدلين[5]. فالمسألة إذن تحتمل وتحتمل
فهي من الظنيات التي لا قطع فيها.
د – مذهب ابن تيمية الجد
ذهب ابن تيمية الجد إلى أنه يجب على
العامي قطعا البحث الذي به يعرف صلاح المفتي للاستفتاء إذا لم تكن قد تقدمت معرفته
بذلك، ولا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم، وإن انتصب في منصب التدريس أو
غيره، ويجوز استفتاء من تواتر بين الناس أو استفاض فيهم كونه أهلا للفتوى[6].
ثالثا: الموازنة بين المذاهب
رأينا كيف أن هذه المسألة تحتمل عدة
وجوه، ولا يقطع فيها بقول واحد، حتى إننا وقفنا على أربعة أقوال للقاضي كلها
محتملة، وكذا بالنسبة للغزالي حيث تعددت الوجوه والاحتمالات عنده، وفي المسألة
أقوال أخرى تنظر في "البحر المحيط"[7] فقد
استقصاها أحسن استقصاء.
فالمسألة إذن حمالة أوجه، لذلك قال عنها
الإمام في "التلخيص":«والمسألة على الاحتمال كما تراها»[8].
والذي بدا لي أنها تدخل في باب المظنونات التي لا تستند إلى دليل قاطع، بل هي من
القضايا التي تفتقر إلى ظروف وحيثيات كل زمن على حدة، فزمن القاضي غير زمن
الغزالي، وعصرهما غير عصرنا وهكذا، فكلما تغير العصر تغير القول والرأي في هذه
المسألة، وقد نقل ابن تيمية في "المسودة" عن أبي عمرو قوله:« ولا ينبغي
أن يكفي في هذه الأزمان مجرد تصديه للفتوى واشتهاره بمباشرتها، لا بأهليته
لها »[9].
فتغير الزمن إذن معتبر، ولا يوجد قول فاصل في المسألة، فهي – في رأيي والله أعلم -مفتقرة
إلى نظر المستفتي فما حصل له به العلم أن فلانا من جملة العلماء فهي الطريقة
الصحيحة التي لا يجوز سواها، سواء أكانت سؤالا، أو استفاضة، أو شهرة، أو ادعاء من
المجتهد أنه بلغ مرتبة المجتهدين، أو امتحانا لهذا المفتي، أو غيرها، فالمهم من كل
ذلك حصول العلم لدى المستفتي. والله أعلم.
0 التعليقات: