أولا: صورة المسألة
إذا ثبت اختلاف أهل عصر من العصور على
قولين، واستقر هذا الخلاف، فهل يجوز لإحدى هاتين الفرقتين الرجوع إلى قول الفرقة
الأخرى ؟ وهل يصح أن يطلق على هذا الاتفاق الحاصل بعد الخلاف المستقر إجماعا ؟.
ثانيا: تحرير محل النزاع
اختلف الأصوليون كثيرا في وصحة وقوع
الإجماع على شيء سبق ثبوت الخلاف فيه، وأخذ هذا النزاع صورا متعددة، منها: ما إذا
اختلف المجتهدون من أهل العصر على قولين، ثم حصل أن رجعت إحدى الفرقتين إلى رأي
الأخرى، فنحن هنا أمام حالتان:
الأولى: أن لا يستقر هذا الخلاف، بحيث
يكون المجتهدون في مهلة من النظر، ولم يظهر لهم قول، كخلاف الصحابة لأبي بكر في
قتال مانعي الزكاة[1]، وإجماعهم بعد ذلك،
فالإجماع منعقد في هذه الحالة بلا خلاف[2]، وهذه
الصورة ليست محل النزاع هنا.
الثانية: أن يستقر الخلاف، ويمضي أهله
عليه مدة. فهل يجوز لأهل ذلك العصر بعينهم بعد استقرار الخلاف الاتفاق على أحد
القولين[3]، وهل
يصح تسمية ذلك إجماعا ؟، فهذه الصورة هي محل النزاع بين الأصوليين.
ويجب التنبيه على أن الخلاف هنا ينبني
على مسألة انقراض العصر في الإجماع، فعلى القول باشتراطه، فلا خلاف في جواز وقوع
ذلك قطعا، إذ ليس فيه ما يوهم تعارض الإجماعين على هذا الرأي، وأما على القول بعدم
اشتراط الانقراض، ففيه الاختلاف الذي سيأتي ذكره[4].
ثالثا: مذاهب العلماء في المسألة
أ – رأي القاضي
ذهب القاضي إلى عدم صحة الإجماع
المنعقد من فرقتين تنتميان لنفس العصر، اختلفتا على قولين في أول الزمان، وثبت
الخلاف بينهما واستقر، ثم اتفقتا بعد ذلك على أحد هذين القولين، حيث قال:«إذا
اختلفوا أولا، واستقر اختلافهم، واستبد كل حزب بمذهب، ولم يكن ذلك ترددا
منهم في مهلة الناظرين، فلا يجوز أن يتفقوا على أحد المذاهب، وإبطال سائرها»[5].
وإلى هذا القول ذهب الشيرازي في
"شرح اللمع"[6]،
والآمدي في "الإحكام"[7]،
والصيرفي[8]-[9]، وقال
الزركشي بأن الغزالي مال إليه[10]،
والذي في "المستصفى" خلاف ما نسبه إليه كما سنبينه إن شاء الله.
ب – مذهب الإمام
ذهب إمام الحرمين كعادته إلى التفصيل
وعدم إصدار الحكم بإطلاق، حيث قرر أن القول بصحة هذا الإجماع أو عدمه ينبني على
قرب أو طول عهد المختلفين، وهو نفس التفصيل الذي ذكره في مسألة انقراض العصر
تقريبا.
فقال عن حالة قرب زمن النزاع: « إنْ
قَرُب عهد المختلفين، ثم اتفقوا على قول، فلا أثر للاختلاف المتقدم وهو نازل
منزلة تردد ناظر واحد أولا، مع استقراره آخرا»[11].و
بالتالي فهو إجماع معتبر، كما هو الحال بالنسبة إلى اختلاف الصحابة في قتال مانعي
الزكاة، ثم استقرار الإجماع بعد ذلك على رأي واحد.
وبإمعان النظر في القسم الأول من
التفصيل المذكور، فإننا نجده خارج موطن الخلاف كما بينا أثناء تصديرنا الكلام عن
هذه المسألة، لأن الخلاف لم يستقر بعد، والمجمعون في فسحة من أمرهم إلى حين
استقرار نظرهم على الرأي المختار عندهم، وهو كما قال الإمام بمثابة تردد مجتهد
واحد في النازلة أولا، ثم استقرار فتواه على ما بدا له من حجة آخرا. فالحكم
والحالة هذه يكون بصحة انعقاد الإجماع بلا خلاف كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ثم قال عن الحالة التي يمتنع فيها
الحكم بصحة الإجماع على الصفة المذكورة:« وإن تمادى الخلاف في زمن
متطاول على قولين، بحيث يقضي العرف بأنه لو كان ينقدح وجه في سقوط أحد القولين
على طول المباحثة لظهر ذلك للباحثين. فإن انتهى الأمر إلى هذا المنتهى، فلا حكم
للوفاق على أحد القولين، ...، وذلك أن ما صورناه من اختلافهم في الزمان، مع
مشاورة الذكر، وترديد البحث يقتضي ما ذكره القاضي من حصول وفاق ضمني على أن
الخلاف في هذه المَحَالّ سائغ»[12].
فهو رحمه الله يصرح في هذه الحالة التي
يتطاول فيها الزمن، ويتمادى الخلاف وينتشر، بموافقة ما ذهب إليه أبو بكر الباقلاني
من عدم اعتبار صحة هذا الاتفاق.
وعليه، فإننا نستطيع القول: إن القولين
يرجعان في حقيقتهما إلى مذهب واحد، متمثل في عدم منع اعتبار الاتفاق الذي هذه
صورته إجماعا شرعيا، فلا خلاف بين الإمامين كما قد يتوهم والله أعلم.
ذلك: أنهما اتفقا على اشتراط تباعد الزمان،
واستقرار الخلاف، إلا أن كلا منهما عبر عن مراده بصيغة مختلفة، فقال القاضي: «إذا اختلفوا
أولا واستقر اختلافهم ...»، بينما عبر الإمام بقوله:« إن تمادى الخلاف في زمن
متطاول ...»، وهذا الذي ذكراه هو ما قررناه في محل النزاع من اشتراط استقرار
الخلاف، ومُضِي أهله عليه برهة من الزمن.
ج – مذهب الجواز ( الجمهور )
نسب إمام الحرمين القول بصحة انعقاد الإجماع الذي هذه صورته إلى معظم
الأصوليين[13]، ونسبه كذلك غيره إلى
الأكثرين[14]، وهو مذهب: السمعاني[15]،
والباجي[16]،
وظاهر كلام ابن حزم[17]،
والرازي[18]،
ومال إليه ابن الحاجب[19]،
وصححه القرافي[20]، والإيجي[21]،
والإسنوي[22]، واختاره الزركشي[23]، وهو
قول كافة الحنابلة[24].
د – مذهب الغزالي
تقدم القول بأن الزركشي نسب إلى
الغزالي ميله إلى منع انعقاد الإجماع بعد خلاف سابق مستقر، والذي في
"المستصفى" خلاف ما ذكر، وبيان ذلك: أن الغزالي رحمه الله قد استشكل هذه
المسألة واستعظمها، وجعل لها خمسة طرق للخلاص من هذا الإشكال كما عبر عن ذلك رحمه
الله، وهذه الطرق هي:
1 – أن نقول هذا محال وقوعه، وهو كفرض
إجماعهم على شيء ثم رجوعهم بإجماعهم إلى خلافه، أو اتفاق التابعين على خلافه[25]. 2 –
المخلص الثاني: اشتراط انقراض العصر، قال: وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم[26]. 3 –
المخلص الثالث: اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد[27]. 4 –
المخلص الرابع: أن يقال: النظر إلى الاتفاق الأخير، فأما في الابتداء فإنما جوز
الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد، قال: وهذا مشكل[28]. 5 –
المخلص الخامس: أن الأخير –أي الإجماع الأخير - ليس بحجة، ولا يحرم
القول المهجور، لأن الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف، فإذا تقدم
لم يكن حجة كيفما كان[29].
ثم اختار رحمه الله من بينها المخلص
الأول فقال: «فلعل الأوْلى الطريق الأول، وهو أن هذا لا يتصور، لأنه يؤدي إلى
التناقض، وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه ...» [30].
وعليه، فإن مذهب الغزالي هو عدم تصور
الوقوع لا المنع مطلقا كما هو مذهب القاضي وغيره ممن لم يجوزوه أصلا. بدليل أنه
ذكر مذهب المنع في جملة المخارج التي جعلها تصلح لحل الإشكال الذي تطرحه هذه
المسألة، فقال في المخلص الخامس: إن هذا الإجماع ليس بحجة. ثم لم يرتضه وإنما
ارتضى المخلص الأول القائل بعدم تصور وقوعه، فدل ذلك على أن مذهبه ما ذكرنا وليس
المنع.والله أعلم.
و - تنبيهات
2
- ونسب أيضا كل من السبكي نفسه[33]،
والزركشي[34]، والشوكاني[35]،
القول بالجواز للآمدي، وهو خلاف ما صرح به في "الإحكام" من امتناع ذلك
مطلقا[36].
رابعا: المذهب المختار
المذهب المختار في هذه الدراسة هو مذهب
الجمهور من الأصوليين القائلين بجواز الإجماع الحاصل بعد الخلاف، لأن العمل يكون
بما استقرت عليه آراؤهم، وانتهت إليه أنظارهم، وقد انتهت إلى الإجماع فزال بذلك
الخلاف السابق. والله أعلم.
[1] - هذا الأثر مروي في: صحيح البخاري، كتاب
الزكاة، باب: وجوب الزكاة برقم: 1400. ومسلم في كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتال
الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، رقم: 32.
[9] - محمد بن عبد الله بن أبي بكر الصيرفي الشافعي
( 330 هـ ): له مصنفات في المذهب، وهو صاحب وجه، من كتبه: شرح الراسلة، وكتاب في
الإجماع، وكتاب في الشروط ( أنظر طبقات الشافعية 3/186، والعبر 2/36 ).
[10] - أنظر البحر المحيط 4/530، وكذلك فعل المرداوي
في التحبير 4/1662، والشوكاني في إرشاد الفحول 1/407.
0 التعليقات: