أولا: صورة المسألة
اختلف العلماء في اشتراط انقراض العصر
في صحة الإجماع، بمعنى: أن يموت المجمعون جميعا لكي نحكم على إجماعهم بالصحة
والقبول، ويبدأ بعد ذلك الاحتجاج بإجماعهم.
ثانيا: مذاهب العلماء
أ – مذهب الباقلاني ( الجمهور )
ذهب أكثر الفقهاء والمحققين من
الأصوليين[1] ومنهم
القاضي أبو بكر الباقلاني إلى أن المجتهدين إذا أجمعوا على حكم قامت الحجة
بإجماعهم من غير انتظار انقراض عصرهم، كما أنهم يسوغون رجوع أحدهم أو بعضهم –دون
الكل – بعد انعقاد الاتفاق، لكن من رجع منهم يكون محجوجا بالإجماع المنعقد، قال في
"التلخيص": «والصحيح من المذاهب: أن لا يشترط في انعقاد الإجماع الانقراض،
ولكن مهما أجمع علماء الأمة على حكم في حادثة، فهو الحق عند الله قطعا، وقد قامت
حجة الإجماع، ويحرم الخلاف، ولا يتصور منهم بأجمعهم أن يرجعوا عما أجمعوا عليه. إذ
لو رجعوا لكانوا مخالفين للإجماع الأول، وهو ضلال، ولا تجتمع الأمة على الضلالة.
ويتصور أن يخالف بعضهم بعد انعقاد الإجماع.
ولكنا نعلم أنه خطأ وضلال وابتداع بعد انعقاد الإجماع، كما نعلم ذلك بعد انقراض
المجمعين »[2]، وقال
الإمام في "البرهان":« وقال القاضي: إذا أجمعوا قامت الحجة من غير
استئخار، وانتظار انقراض، ولو فرض خلاف بعد الوفاق، كان المخالف خارجا عن حكم
الإجماع، خارقا ِربقة[3]
الوفاق»[4].
وهو مذهب الجمهور، منهم: أبو الحسين
البصري[5]،
والجويني في "الورقات"[6]، وابن
حزم الظاهري[7]، والشيرازي[8]،
والسمعاني[9]،
والغزالي[10]، والرازي[11]، وابن
الحاجب[12]،
والقرافي[13]، والبيضاوي[14]،
والخبازي[15]، وأبو والسبكي[16]،
والزركشي[17]، وأبو الخطاب من الحنابلة[18]،
وعليه أكثر الفقهاء من المالكية[19]، والشافعية[20]،
والحنفية[21]، والمعتزلة[22].
وبالتالي فقد صح أن يطلق على هذا القول بأنه مذهب الجمهور[23]. وقد
نسبه كل من المرداوي[24] وابن
النجار[25] إلى
الأئمة الثلاثة: أي مالك والشافعي وأبو حنيفة، وقال ابن قدامة إن الإمام أحمد قد
أومأ إلى أنه ليس بشرط، بل لو اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة واحدة انعقد الإجماع[26].
ب – مذهب الإمام
وافق الجويني الجمهور في القول بعدم
اشتراط انقراض العصر في "الورقات" فقال:« ولا يشترط انقراض العصر على
الصحيح »[27].
ثم استقل في "البرهان" بما
يمكن أن يعتبر مذهبا خاصا به، وذلك بالتفريق بين أن يستند الإجماع إلى قاطع فلا
يشترط فيه تمادي الزمان وانقراض المجتهدين، بل ينتهض حجة على الفور، وبين أن يستند
إلى ظني فليس بحجة، حتى يطول الزمان وتتكرر الواقعة، ولو طال الزمان ولم يتكرر فلا
أثر له، ومستنده في ذلك: أن المسألة لما استندت إلى ظني، وطالت المدة، وتكررت
الواقعة، ولم يعرض لأحد خلاف، التحق بالمقطوع. فالشرط إذن هو طول الزمن، أما إذا
مات هؤلاء المجمعون القائلون بالظن على الفور، لم يعتبر ذلك إجماعا، لعدم
تطاول الزمان[28].
قال رحمه الله:« الإجماع ينقسم إلى
مقطوع به، وإن كان في مظنة الظن، وإلى حكم مطلق أسنده المجمعون إلى الظن بزعمهم.
فأما ما قطعوا به على خلاف موجب
الاعتياد، فتقوم الحجة به على الفور من غير انتظار واستئخار...
وإن اتفقوا على حكم وأسندوه إلى الظن،
فلا يتم الإجماع ولا ينْبرم، مع إسنادهم ما أفتوا به إلى أساليب الظنون، ما لم
يتطاول الزمن»[29].
أما عن ضبط ذلك الزمن المعتبر في تحول
الإجماع الظني إلى قطعي، فقد بين رحمه الله بأنه زمن لا يفرض في مثله استقرار الجم
الغفير على رأي إلا عن حامل قاطع، أو نازل منزلة القاطع على الإصرار[30]، بل
لو فرض انقراضهم في وقت قصير – ولو مباشرة بعد إجماعهم - لا يسع فيه النظر
والتأمل، فإن الإجماع لا ينعقد إذا كان مستندا إلى الظن كما سبق بيانه.
ثم صرح بأن هذا التفصيل الذي ذكره
متعذر وجوده في الظني لعسر تصوره، لكون الحكم المسند إلى الظن مع فرض طول الزمن
فيه يَبْعد أن يَسْلَم عن خلاف مخالف من الظانين، أما إذا تصور فالحكم ما ذكره،
لأن امتداد الأيام يبين إلحاقهم بالمصرين، ويرفعهم عن رتبة المترددين[31].
ونسب ابن الحاجب إلى الإمام قوله بأن
الإجماع المنعقد إن كان مستنده القياس اشترط فيه انقراض العصر وإلا فلا[32]، وقد
اعتبر كل من السبكي[33]
والزركشي[34] أن هذا وهم من ابن الحاجب
رحمه الله، فأبو المعالي لم يقل باشتراط الانقراض البتة[35]، لأن
ما قاله في الظني حكم عليه بعسر وقوعه، وهو لا يرى هذا النوع من الاتفاق إجماعا،
حيث قال:« فلو قالوا عن ظن، ثم ماتوا على الفور كما تقدم تصوير ذلك، فلست
أرى ذلك إجماعا، من جهة أنهم أبدوا وجها من الظن، ثم لم يتضح إصرارهم»[36]. قال
الزركشي: « واشتراطه طول الزمان في الظني، إنما هو ليصل إلى القطع، لا أنه متصور
في نفسه»[37].
وبناء على ما تقدم يتبين أن إمام
الحرمين يتفق مع الجمهور في عدم اشتراط انقراض العصر في الإجماع المستند إلى أصل
مقطوع به، وخالفهم فيما إذا كان مستند إجماعهم الظن، فإنه اشترط فيه تطاول
الزمن لا انقراض العصر. مع تنصيصه على أن هذا الإجماع يعسر تصوره.
وقد ذكر السمعاني هذا المذهب في
"قواطع الأدلة"، ونسبه إلى بعض أصحاب الشافعي، ورده بقوله:« وهذا الفرق
لا يصح، لأنه لا يعرف إلى أي شيء أسندوا الإجماع، ولو عُرف أنهم أسندوا اتفاقهم
إلى دليل مقطوع، فتكون الحجة ذلك الدليل لا غير»[38].
تنبيهات:
الأول: يستشف من كلام السمعاني في
حكايته لهذا المذهب[39]، أن معنى
الإجماع المستند إلى الظن في كلام الإمام هو المستند إلى الاجتهاد دون دليل سمعي
مقطوع به.
الثاني: أن الإمام قد خالف الأصوليين القائلين
بانقراض العصر، حيث اعتبر أن الشرط هو تطاول الزمن فيما مستنده الظن[40]
لا موت المجمعين، فقال : « واشتراط الموت مع طول الزمن لا معنى له»[41]، ولا
شك أن هناك فرقا بين الأمرين، لأن مرور الزمن الطويل قد لا ينتج عنه موت جميع
المجتهدين، فقد يبقى بعضهم أو جلهم أو كلهم. فثبت بذلك أن الإمام لا يشترط انقراض
العصر البتة.
الثالث: من شروط تطاول الزمن عند الإمام، أن
يغلب على المجمعين ذكر تلك الواقعة، وترداد الخوض فيها، فلو وقعت الواقعة فسبقوا
إلى حكم فيها، ثم تناسوها، فلا أثر للزمان والحالة هذه[42].
الرابع: لا يمكن القول بأن الإمام يوافق
الجمهور من كل الوجوه، لأن هذا التفصيل الذي ذكره معتبر في إثبات الخلاف، والدليل
على ذلك أنه بعد أن بين المختار عنده، شرع في الرد على المذاهب التي سردها من قبل،
حيث ابتدأ بمذهب القاضي ( الجمهور )، فقال عنه:« وأما إطلاق القاضي القول بقيام
الحجة من غير تفصيل، ففي أطراف كلامنا ما يدرؤه»[43].
فالقول بقيام الحجة بمجرد انعقاد الاتفاق مطلقا غير مرضي عنده دون التفصيل الذي
ذكره.
ج – مذهب من يشترط
انقراض العصر
ذهب بعض الناس إلى أن الحجة لا تقوم
إلا عند انقراض المجمعين وتفانيهم، وما داموا باقين، فيسوغ الخلاف من بعضهم، ومن
طائفة يبلغون بعد إجماعهم مبلغ العلماء[44].
وهو مذهب الإمام أحمد، ونصره محققو
أصحابه[45]،
منهم القاضي أبو يعلى[46]،
وابن عقيل[47]، وابن قدامة المقدسي[48]،
وحكي هذا المذهب عن أبي الحسن الأشعري[49].
ونسبه البزدوي إلى الشافعي[50]، وفي
هذه النسبة نظر حيث لم أر من نسب له هذا المذهب من أصحابه، بينما هو مذهب أبي بكر
بن فورك وسليم الرازي منهم[51]،
ونسبه أبو الوليد الباجي للفقيه أبي تمام البصري من المالكية، والجبائي من
المعتزلة[52].
د – باقي المذاهب
للأصوليين في هذه المسألة مذاهب وأقوال
أخرى غير الثلاثة التي ذكرنا نوجزها فيما يلي:
المذهب الرابع: التفصيل: فإن كان الإجماع قوليا لم
يشترط فيه الانقراض، وإن كان بسكوت جماهير المجتمعين على قول واحد منهم، من
غير إبداء نكير اشترط الانقراض، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني[53]،
وأبي منصور البغدادي[54]،
واختاره الآمدي[55]، وهو ظاهر كلام ابن شهاب
العكبري ( ت428 هـ ) من الحنابلة[56].
قال الزركشي عن نسبة هذا المذهب إلى
الإسفراييني:«واعلم أن ما نقلته عن الأستاذ تابعت فيه إمام الحرمين، لكن الذي في
تعليقة الأستاذ عدم الاشتراط فيهما جميعا»[57].
المذهب الخامس: إن اشترط أهل الإجماع جواز
الرجوع عما أجمعوا عليه، جاز لهم الرجوع، وإن لم يشترطوا ذلك، فلا يصح من كافتهم الرجوع، حكاه في
"التلخيص" وقال: « وهذا أضعف المذاهب»[58].
المذهب السادس: إذا لم يبق من المجمعين إلا
عدد ينقصون عن أقل عدد التواتر، فلا يكترث ببقائهم، ويحكم بانعقاد الإجماع[59].
المذهب السابع: ينعقد قبل انقراض عصره فيما
لا مهلة له، ولا يمكن استدراكه، من قتل نفس أو استباحة فرج، ولا ينعقد فيما اتسعت
له المهلة، وأمكن استدراكه إلا بانقراض العصر[60]. قال
الزركشي:«وهو نظير ما سبق في السكوتي»[61].
وفي الباب مذاهب أخرى أعرضت عنها لضعفها وعدم
شهرتها[62].
ثالثا: الموازنة بين المذاهب
المختار، والله أعلم، هو قول الجمهور
بعدم اشتراط انقراض العصر في صحة الإجماع، لأنه قد ثبتت حجية الإجماع بأدلة خاصة،
وهو لا يفتقر إلى شيء آخر خارج عنه، فإذا وجد قامت الحجة به من غير انتظار انقراض
العصر، وقد استدل الجمهور بأدلة أخرى تقوي مذهبهم، فليراجعها من شاء في المصادر
المشار إليها في ثنايا البحث، فإن المقام لا يتسع لعرضها، خشية الخروج عن مقصود
هذه الدراسة.
رابعا: فائدة الخلاف
قال أبو يعلى: « وفائدة الخلاف: من
قال: لا يعتبر انقراض العصر، عليه –أي على الإجماع -، يقول: لا يسوغ أن يرجع الكل
عما أجمعوا عليه، وإن رجع واحد منهم ساغ رجوعه، لكنه محجوج بقول الباقين. وإذا
حديث من التابعين من هو من أهل الاجتهاد فخالفهم لم يكن خلافه خلافا.
ومن قال: يعتبر انقراض أهل العصر،
يقول: يجوز أن يرجع الكل عن ذلك القول إلى غيره، ويرجع الواحد منهم عن القول معهم،
فيكون خلافه خلافا، ويسوغ للتابعين مخالفتهم، فيكون خلافهم خلافا»[63].
[1] - أنظر المعتمد 2/502، والإشارة ص: 278-279،
وإحكام الفصول ص: 473، والمنتهى ص: 59، والإحكام للآمدي 1/335، والمسودة ص: 219،
والتحبير 4/1617، وشرح الكوكب المنير2/246، وفواتح الرحموت 2/224، ونشر البنود
2/86.
[22] - أنظر الإحكام للآمدي 1/335، وهناك من نسبه
للمعتزلة كافة: كالفراء في العدة 4/1097، وابن تيمية في المسودة ص: 219 وغيرهما،
وهذا الإطلاق فيه نظر لكونه مذهب أكثرهم لا جميعهم، لمخالفة الجبائي منهم كما سيأتي.
[23] - أنظر روضة الناظر ص: 73، وإرشاد الفحول 1/399،
والتحبير 4/1619، وقد قال الزركشي في البحر المحيط 4/510: « قال القاضي في
التقريب: وهو قول الجمهور».
[39] - قال في قواطع الأدلة 3/317:« إن أسندوا
الإجماع إلى الظن، فلا يتم الإجماع ولا ينبرم ما لم يتطاول الزمان بذلك، وإن كان
اتفاقهم لا عن اجتهاد بل عن أصل مقطوع به، فإنه يتم الإجماع في الحال».
0 التعليقات: