إعلان أفقي

السبت، 31 أغسطس 2013

الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟

Posted by mounir  |  at  أغسطس 31, 2013


أولا: صورة المسألة

إذا وردت صيغة الأمر بشيء معين، هل يفهم من ذلك أن الآمر يقصد من أمره النهي عن ضد ذلك الفعل أم لا ؟، كما لو قال الأب لولده: قم، فهل يقتضي قوله هذا النهي عن الجلوس، والنوم، والاضطجاع وغير ذلك مما يعتبر ضدا للمأمور به.
اختلف الأصوليون في ذلك إلى مذاهب نتج عنها اختلافهم في عدة مسائل فقهية.

ثانيا: تحرير محل النزاع

يمكن تحديد موضع الاختلاف بين الأئمة في النقاط التالية:
1 – إذا كان للأمر ضد واحد فلا خلاف في كونه منهيا عنه وإلا لأدى إلى التناقض، كالأمر بالإيمان فهو نهي عن ضده وهو الكفر، وأما إن كان له أضداد كالأمر بالقيام فإن له أضدادا كثيرة كالقعود والركوع والسجود والاضطجاع ونحوها، فهو محل الخلاف[1].
2 – لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن، وإنما اختلفوا في كونه نهيا عن ضده الوجودي على مذاهب[2].
3 – الخلاف في الأمر الذي هو على سبيل الجزم لا التخيير،«لأن الأمر المنطوي على التخيير قد يتعلق بالشيء وضده، ويكون الواجب أحدهما لا بعينه، فلا سبيل لك إلى أن تقول فيما هذا وضعه أنه نهي عن ضده إذا خير المأمور بينه وبين ضده»[3].
4 – ذكر الزركشي عن بعض الأصوليين أن موضع الخلاف إذا لم يُقصد (الضد) بالنهي، فإن قصد كقوله تعالى: { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن }[4]، فإن الضد في[5] مثل هذه الصورة حرام بلا خلاف[6].
5 – المسألة مقصورة على الواجب المعين دون الواجب المخير والموسع، فإن الأمر بهما ليس نهيا عن الضد[7].
1                       – ليس النزاع في لفظ الأمر والنهي، بأن يقال للفظ الأمر نهي، وللفظ النهي أمر، للقطع بأن الأمر موضوع لصيغة" افعل"، والنهي موضوع لصيغة "لا تفعل"[8].
2                        - ليس النزاع أيضا في مفهوميهما، للقطع بأنهما متغايران، بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر، عين طلب ترك ضده الذي هو النهي[9].

ثالثا: مذاهب العلماء

أ – رأي الباقلاني
للقاضي أبي بكر مذهبان مشهوران في هذه المسألة، مذهب متقدم بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ومذهب متأخر بأنه ليس نهيا عن ضده ولكنه يتضمنه ويقتضيه، وهذان المذهبان هما اللذان أطبق الأصوليون على نسبتهما له، وهناك مذهب آخر نسبه إليه الزركشي والمرداوي وابن النجار كما سيأتي.
وتفصيل هذه المذاهب كما يلي:
المذهب الأول:
هو ما صرح به في "التقريب والإرشاد" من أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، حيث قال رحمه الله: «إن أمر الله سبحانه بالشيء على غير وجه التخيير بينه وبين ضده هو نفس النهي عن ضده وغير ضده – أيضا – مما نهي المكلف عنه»[10]، وهذه طريقة القائلين بأن كلام الله نفسي، وأن الأمر ليست له صيغة خاصة.
والنهي هنا إنما ينصرف إلى المعنى واللفظ معا، لا إلى المعنى دون اللفظ كما هو مذهب القائلين بأن للأمر صيغة وللنهي صيغة تخالفها، كما صرح بذلك الباقلاني حين قال: «ولا وجه لقول من قال إنه نهي عنه في المعنى دون اللفظ، لأنه لا صيغة ولا لفظ للأمر والنهي»[11].
وهذا المذهب منسوب إلى أبي الحسن والأشعري[12] وجمهور الأشاعرة من بعده، وهو مذهب إمام الحرمين في "الورقات"[13].
وهؤلاء قدروا عين الأمر نهيا، وزعموا أن اتصافه بكونه أمرا نهيا بمثابة اتصاف الكون الواحد بأنه قربا من شيء بعدا من غيره[14]. 
المذهب الثاني:
القول بأن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده، ولكنه يتضمنه ويقتضيه، وهذا المذهب نسبه إليه الجويني في "البرهان"[15]، وتابعه على ذلك الكثير من الأصوليين[16]، وهو ما استقر عليه قول القاضي أبي بكر[17].
قال الجويني:« والذي مال إليه القاضي رحمه الله في آخر مصنفاته أن الأمر في عينه لا يكون نهيا، ولكنه يتضمنه ويقتضيه وإن لم يكن عينه»[18].
وهذا هو الرأي الثاني من آراء القائلين باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، ويعبرون عنه بقولهم:"الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى[19] لا من اللفظ[20]"، وقد نسبه الباجي إلى عامة الفقهاء[21]، وقال القرافي بأنه قول أكثر المالكية[22].
المذهب الثالث:
نسب إليه الزركشي في "البحر المحيط"[23]، والمرداوي في "التحبير شرح التحرير"[24]، وابن النجار في "شرح الكوكب المنير"[25] قولا ثالثا، وهو أن الأمر بالشيء ليس عين المنهي عن ضده ولا يقتضيه.
ب – رأي الجويني
لإمام الحرمين أيضا قولان مشهوران في هذه المسألة، قول يوافق المذهب الأول الذي حكيناه عن الباقلاني، وآخر يعارضه.
أما القول الأول فقد صرح به في "الورقات"[26] و"التلخيص"[27]، وهو أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده، كما أن النهي عن الشيء أمر بضده[28].
وأما المذهب الثاني فهو ما استقر عليه رأيه في "البرهان" حيث صرح بأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن أضداده[29] لا لفظا ولا عقلا[30].
ج – مذهب المعتزلة
نسب كل من الباقلاني في" التقريب والإرشاد"[31]، والجويني في "التلخيص"[32] وغيرهما[33]، إلى المعتزلة أن الأمر بالشيء ليس بنهي عن ضده لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى.
وهذا مذهب الجمهور[34] منهم، وإلا فإن بعضهم قال بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده من طريق المعنى، كما هو الشأن بالنسبة إلى أبي الحسين البصري[35] والكعبي[36]، بل إن إمام الحرمين قد نسب هذا القول إلى المعتزلة بأسرها[37].
د – تلخيص مذاهب الأئمة في المسألة
اختلف الأصوليون في هذه المسألة إلى قولين رئيسين، يتمخض عن كل واحد منهما مذاهب أخرى مستقلة، ويمكن تلخيص هذه الآراء في ما يلي:
1 – أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وانقسم القائلون بهذا الرأي إلى طائفتين اثنتين، كل طائفة منهما يعتبر قولها مذهبا مستقلا بذاته، وإن كانا يرجعان في أصلهما إلى نفس القول، وهما كالآتي:
الأولى: وهم القائلون بأن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده من جهة اللفظ والمعنى معا، وهذا هو الذي حكيناه عن القاضي وأبي الحسن الأشعري والجويني في خضم حديثنا عن مذهب الباقلاني.
الثانية: وهم القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وربما عبر عنه بعضهم بقولهم:" إن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده، ولكنه يتضمنه ويقتضيه" كما سبقت الإشارة إلى ذلك، أو بقولهم: "إنه غيره، ولكنه يدل عليه بالالتزام"[38]، وهو الذي نسبه الجويني إلى القاضي في آخر مصنفاته، وهذا مذهب الأئمة الأربعة[39]، وعامة الفقهاء[40]، وبعض المعتزلة كالكعبي[41]، وأبي الحسين البصري[42]، ونسبه الآمدي إلى المتأخرين منهم[43] بل نسبه السبكي إلى القاضي عبد الجبار[44] وهذا مخالف لما نقله عنه أبو الحسين البصري[45]، كما أسنده الشوكاني إلى الجمهور من أهل الأصول، وإلى المحدثين[46]، وهو اختيار الفراء[47]، والشيرازي[48]، والسمعاني[49]، والرازي[50]، والأسنوي[51]، وابن تيمية[52] وتلميذه ابن القيم[53]. 
تنبيه مهم
 يجب أن نشير إلى أن هناك من جعل عبارة " الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى لا من جهة اللفظ"، وعبارة "الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده ولكنه يتضمنه ويقتضيه أو يستلزمه"مذهبين مختلفين، كما فعل المرداوي في "التحبير شرح التحرير"[54] وابن النجار في "شرح الكوكب المنير"[55]، والصواب أنهما قول واحد وإن اختلفت عبارتهما، فإنهما يحملان نفس المعنى.
2 – أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن أضداده لا لفظا ولا معنى، وهذا مذهب جمهور المعتزلة كما سبق التنصيص عليه، ووافقهم الجويني في "البرهان"[56]، كما رجحه الغزالي[57] وابن الحاجب[58]، واختاره عضد الملة الإيجي[59]. 

رابعا: المذهب المختار

المختار في هذا البحث هو المذهب المنسوب إلى الجمهور من علماء الملة، والقائل بأن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده ولكنه يستلزمه ويقتضيه، "فإن الأمر إنما مقصوده فعل المأمور، فإذا كان من لوازمه ترك الضد صار تركه مقصودا لغيره"[60]، فقولك: قم، يستلزم نهيك عن الجلوس والاضطجاع وغيرهما، لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده، والله أعلم.

خامسا: ثمرة الخلاف في هذه المسألة

قال الشوكاني:«وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده، استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط، إذا قيل بأنه ليس نهيا عن ضده، أو به وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهي عن فعل الضد، لأنه خالف أمرا ونهيا، وعصى بهما»[61].
كما تظهر فائدة الخلاف في: أن العبادة المأمور بها لا ينهى عن ضدها ما لم يفض فعل الضد إلى فواتها، فالقيام في الصلاة مأمور به، فإذا جلس ثم تلافى القيام المأمور به لم تبطل صلاته، لأن جلوسه ذلك غير منهي عنه، لأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده.
والجمهور يرون أن الجلوس منهي عنه، لأنه ضد القيام المأمور به، فإذا جلس من قيامه في أثناء صلاته عمدا بطلت صلاته، وإن أمكنه التلافي، لأن المصلي قد فعل في صلاته فعلا منهيا عنه، فوجب أن تبطل صلاته[62].


[1]  - البحر المحيط 2/416.
[2]  - الإبهاج في شرح المنهاج 1/120، والبحر المحيط 2/418.
[3]  -  التلخيص 1/412-413، وانظر الإبهاج 1/124.
[4]  - سورة البقرة الآية 222.
[5]  - في الأصل : بدون حرف الجر "في".
[6]  - البحر المحيط 2/425.
[7]  - البحر المحيط 2/418، وانظر شرح تنقيح الفصول ص: 110.
[8]  - إرشاد الفحول 1/471.
[9]  - إرشاد الفحول 1/471.
[10]  - التقريب والإرشاد 2/198، وانظر التلخيص 1/411.
[11]  - نفسه 2/200، وما رده هنا هو عين ما نسب إليه في المذهب الآتي قريبا من كون المر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى دون اللفظ.
[12]  - أنظر جمع الجوامع ص: 43، والبحر المحيط 2/417، وشرح الكوكب المنير 3/52.
[13]  - الورقات ص: 13.
[14]  - البرهان 1/179، وانظر الإبهاج 1/122.
[15]  - نفسه 1/179.
[16]  - أنظر المنتهى ص: 94، والإحكام للآمدي 2/211، ومنتهى السول ص: 108، وجمع الجوامع ص: 43، والإبهاج 1/122، والبحر المحيط 2/417.
[17]  - البحر المحيط 2/417.
[18]  - البرهان 1/179.
[19]  - إحكام الفصول ص:228.
[20]  - شرح التنقيح ص:110.
[21]  - إحكام الفصول ص:228.
[22]  - شرح التنقيح ص:110.
[23]  - أنظر البحر المحيط 2/416-417.
[24]  - التحبير شرح التحرير 5/2234.
[25]  - أنظر شرح الكوكب المنير 3/53.
[26]  - الورقات ص: 13، حيث قال: «والأمر بالشيء نهي عن ضده».
[27]  - التلخيص 1/411 وما بعدها.
[28]  - الورقات ص:13.
[29]  - البرهان 1/179.
[30]  - البحر المحيط 2/416.
[31]  - التقريب والإرشاد 2/200.
[32]  - التلخيص 1/413.
[33]  - كالشيرازي في شرح اللمع 1/261، والسمعاني في قواطع الأدلة 1/228.
[34]  - شرح التنقيح ص: 110، قال أبو الحسين البصري:«وإليه ذهب قاضي القضاة وأصحابنا» المعتمد 1/106.
[35]  - أنظر المعتمد 1/106 وما بعدها.
[36]  - أنظر التحبير شرح التحرير 5/2232، و شرح الكوكب المنير 3/52.
[37]  - البرهان 1/179، وانظر إيضاح المحصول ص: 222.
[38]  - التمهيد ص: 95.
[39]  - التحبير 5/2232، وشرح الكوكب المنير 3/51.
[40]  - إحكام الفصول ص: 228،وقواطع الأدلة 1/228، والتحبير 5/2232.
[41]  - أنظر التحبير 5/2232، وشرح الكوكب المنير 3/52.
[42]  - المعتمد 1/106 وما بعدها.
[43]  - منتهى السول في علم الأصول 108.
[44]  - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب 2/527.
[45]  -  أنظر المعتمد 1/106، حيث نسب إليه القول بأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، فقال:« ذهب قوم إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وخالفهم آخرون على ذلك، وإليه ذهب قاضي القضاة وأصحابنا».
[46]  - إرشاد الفحول 1/471.
[47]  - العدة 1/378.
[48]  - شرح اللمع 1/261.
[49]  - قواطع الأدلة 1/228.
[50]  - المحصول 2/199، والمعالم في أصول الفقه للرازي ص:71.
[51]  - التمهيد ص: 95.
[52]  - مجموع الفتاوى 10/531.
[53]  - الفوائد ص:139.
[54]  - التحبير شرح التحرير 5/2232 وما بعدها.
[55]  - شرح الكوكب المنير 3/51 وما بعدها.
[56]  - البرهان 1/180، حيث قال: «الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن أضداده».
[57]  - المستصفى 1/82، حيث قال: «الذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس، أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده لا بمعنى أنه عينه، ولا بمعنى أنه يتضمنه، ولا بمعنى أنه يلازمه»
[58]  - المنتهى ص:95، حيث قال: «اختيار الإمام والغزالي أن الأمر بشيء معين ليس نهيا عن ضده، ولا يقتضيه عقلا، وهو المختار»، وانظر، بيان المختصر 2/48، وشرح العضد ص:170، ورفع الحاجب 2/527.
[59]  - شرح العضد ص:170.
[60]  - الفوائد ص: 139.
[61]  - إرشاد الفحول 1/471.
[62]  - مفتاح الوصول ص: 37، وقد ضرب هناك أمثلة أخرى لاختلاف الفقهاء في بعض الفروع الفقهية بناء على اختلافهم في هذه المسالة.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى