سلسلة المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين الباقلاني
الأمر المطلق:
هل يقتضي الفور أم لا ؟
أولا: صورة المسألة
اختلف الأصوليون في دلالة الأمر عند
الإطلاق، أي دون تقييد بوقت معين، بخلاف ما إذا صرح الآمر بوقت الفعل المأمور به،
مثل قول القائل: «سافر الآن» فإن الصيغة هنا تدل على الفور لوجود القرينة، وقوله:
«سافر رأس الشهر» فإنها تدل على اتساع وقت الفعل، وهو ما يعبر عنه الأصوليون
بالتراخي.
ويجب التنبيه إلى أنه قد اشتهر بين
الأصوليين حكاية مذهب القائلين بالتراخي، وقد أشار غير واحد من الأئمة إلى أن هذه
العبارة فيها دَخَل، لأن مقتضاها أن البدار إلى الفعل لا يجوز، وهو ما لم يقل به
أحد، وإنما يعنون بقولهم بالتراخي: أنه يجوز تأخير الفعل المأمور به، وبهذا صرح
الشيرازي[1]،
والجويني[2]،
والسمعاني[3]،
والمازري[4]،
والسبكي[5]،
وغيرهم[6].
قال المازري: « فالعبارة المنيبة عنه
أن يقال: يقتضي الامتثال من غير تعيين وقت[7]، أو
يقال: يقتضي الامتثال مقدما أو مؤخرا، أو ما في معنى هذه العبارة»[8].
ثانيا: تحرير محل النزاع
يمكن حصر محل النزاع في ست نقاط، هي:
1
- أن الأمر إما أن يرد مؤقتا أو مطلقا،
فإذا ورد مقيدا بوقت معين، فوقته حاصر له، فلا وجه هنا لتصور الفور أو التراخي،
وذلك كقولنا: «سافر الآن»، فإنه لا يفهم منه إلا الفور، للقرينة الحاصلة من إضافة
قيد "الآن" الذي دل على وجوب البدار. فإذا كانت القرينة دالة على اتساع
وقت الفعل فإنها للتراخي، أي أنها تدل على جواز تأخير الفعل عن أول أوقات الإمكان
لوجود القرينة، وذلك كقولنا: «سافر رأس الشهر» أو «سافر أي وقت شئت».
وأما إن ورد الأمر مطلقا دون تقييد
بفور ولا تراخي، فهنا محل الخلاف، وموضع النزاع بين العلماء[9].
2
– هناك اتفاق بين العلماء على وجوب اعتقاد إيجاب
الأمر، والعزم على فعله سواء أكان الأمر مطلقا أو مقيدا[10].
3
- النزاع هنا خاص بالقائلين بأن الأمر لا يفيد
التكرار، وإنما يفيد المرة الواحدة، فالسؤال عندهم: هل تكون هذه المرة على الفور
أم على التراخي ؟، أما القائلون بأن الأمر يفيد التكرار فإنهم متفقون على أنه
للفور[11].
4
– إن
الكلام في هذه المسألة مبني على ثبوت الواجب الموسع، وهو الصحيح، ومن لا يعترف به
فلا كلام معه[12].
6
- إذا كان الأمر بعبارة متكررة تستوعب سائر
الأوقات، كالإيمان بالله، لا يصح فيه تصور التراخي، لأن تقدير التراخي فيه يخرجه
عن الاستيعاب[15]، فهو خارج إذن عن محل
النزاع.
ثالثا: مذاهب العلماء
أ – رأي الباقلاني
صرح ابن الطيب في " التقريب
والإرشاد" بحقيقة مذهبه، واختار القول بإفادة الأمر المطلق للتراخي، حيث قال:
«والوجه عندنا في ذلك القول بأنه على التراخي دون الفور والوقف»[16].
ثم شرع كعادته في الرد على المخالفين
من أصحاب المذاهب الأخرى سواء تعلق الأمر بالقائلين بالوقف[17]، أو
الفور[18].
وقد نسب إليه القول بالتراخي الجويني
في "التلخيص"[19]
وصححه[20]، وفي
"البرهان"[21]
وخالفه، والسمعاني في "قواطع الأدلة"[22]
وصححه، والباجي في "إحكام الفصول"[23]، وأبو
يعلى الفراء في "العدة"[24]،
والآمدي في "الإحكام"[25]،
وابن تيمية الجد في "المسودة"[26]، والزركشي
في "البحر المحيط"[27]
وغيرهم.
بينما نسب إليه أبو إسحاق الشيرازي في
"شرح اللمع" القول بالتوقف ، فلا يحمل على الفور ولا على غير الفور إلا
بدليل[28]، ونسب
إليه كل من ابن الحاجب في "المنتهى"[29]
و"المختصر"[30]،
والكراماستي في "الوجيز في أصول الفقه"[31]،
والشوكاني في "إرشاد الفحول"[32] أن
الواجب إما الفور أو العزم، وهذا الذي نقله عنه هؤلاء العلماء مخالف لما صرح به
القاضي في "التقريب"، ولما حكاه عنه الأئمة الذين سبق ذكرهم.
والتراخي: هو قول أكثر الحنفية[33]،
وجمهور الشافعية[34]، والمعتزلة[35]،
وبعض المتأخرين من المالكية المغاربة[36].
ويمكن أن نلحق بهذا المذهب من قال بأن
الأمر لا يفيد فورا ولا تراخيا، ولكنه يدل على طلب الفعل خاصة[37]،
فأيهما حصل أجزأ[38]، وهو مذهب الغزالي[39]،
والرازي[40]،
والآمدي[41]،
وابن الحاجب[42]، ونسبه التلمساني إلى
المحققين من الأصوليين[43]،
واختاره الشوكاني في "إرشاد الفحول"[44].
وقد أشار إلى ما قلناه من اتفاق هذين
المذهبين وإلحاق بعضهما ببعض كل من السبكي في "الإبهاج"[45]،
والزركشي في "البحر المحيط"[46].
ب – رأي الجويني
لإمام الحرمين قولين في المسألة: قول
متقدم وآخر متأخر، فأما المتقدم فهو القول بالتراخي، حيث وافق فيه مذهب الباقلاني
ومن سار في ركبه فقال في "الورقات" عن صيغة "افعل": « ولا
تقتضي الفور»[47]، وقول آخر بالوقف
قرره في "البرهان" حيث قال:«وذهب المقتصدون من الواقفية: إلى أن من بادر
في أول الوقت كان ممتثلا قطعا، فإن أخر وأوقع الفعل المقتضى في آخر الوقت، فلا
يقطع بخروجه عن عهدة الخطاب، وهذا هو المختار عندنا»[48].
وتجدر الإشارة إلى أن ما اختاره
الجويني هو مذهب المعتدلين من الواقفية، أما غلاتهم فقد ذهبوا إلى أنه إذا
لم يتعين الفور أو التأخير بقرينة، وبادر المخاطب إلى فعله في أول الوقت لا يقطع
بكونه ممتثلا، ولا يخرج به عن العهدة، لجواز أن يكون غرض الآمر فيه أن يؤخر[49].
ج – مذهب الفور
وعزاه الجويني إلى أبي حنيفة وأتباعه[54]،
ونسبه الشيرازي إلى أكثر أصحاب أبي حنيفة[55]،
وكذلك فعل أبو الحسين البصري[56]،
والباجي[57]،
والرازي[58]،
والبيضاوي[59]، والسبكي[60]،
وغيرهم[61].
ونقل هذا المذهب عن أكثر الحنفية فيه
تساهل، والصواب أنه قول أبي الحسن الكرخي منهم[62]،
وتبعه على ذلك بعضهم، أما الثابت عن أكثرهم فهو القول بالتراخي، قال السرخسي:
«والذي يصح عندي فيه مذهب علمائنا رحمهم الله أنه على التراخي، فلا يثبت حكم وجوب
الأداء على الفور بمطلق الأمر»[63].
رابعا: الموازنة بين المذاهب
قبل أن نخوض في الموازنة بين المذاهب،
يجب أولا تضييق الخلاف، والجمع بين الآراء المتقاربة التي تدل في عمقها على نفس
المذهب.
ومن ذلك ما سبق بيانه من أن مذهب
التراخي هو عين المذهب القائل بأن الأمر لا يدل على الفور ولا على التراخي، وإنما
يدل على طلب الفعل، فبقي لدينا إذن ثلاثة مذاهب: الفور، والتراخي، والوقف.
لكننا إذا أمعنا النظر، وحققنا القول
في هذه المذاهب، تبين لنا أن القول بالتراخي قريب جدا من الوقف، إذ كلاهما يؤول في
نهاية الأمر إلى: جواز تأخير الفعل المأمور به.
فالوقف يعني: أن من بادر في أول الوقت
كان ممتثلا قطعا، فإن أخر وأوقع الفعل المطلوب في آخر الوقت، لم يخرج على العهدة[66]، وهو
نفس ما يحمله القول بالتراخي من معنى عدم التعجيل، واقتضاء الامتثال من غير تعيين
وقت.
وقد أشار ابن تيمية الجد إلى هذا
التقارب في " المسودة" فقال: « وعندي: أن مذهب الوقف والتراخي شيء واحد»[67].
وهذا الذي أشرنا إلى اقترابه من القول
بالتراخي، هو مذهب المعتدلين من الواقفية، والذين يمثلهم إمام الحرمين، أما غلاتهم
فإن مذهبهم بعيد عن هذا الذي ذكرنا.
فإذا تبين ذلك، وتقرر اتفاق مذهبي:
التراخي والوقف، فإن هذا الخلاف يمكن اختزاله في مذهبين اثنين، هما: الفور، بمعنى:
التعجيل، والتراخي بمعنى: جواز التأخير.
والمختار في هذا البحث، مذهب القائلين
بأن الأمر المطلق يقتضي الفور، لما لديهم من أدلة نقلية وعقلية[68]
تقتضي وجوب المبادرة لأداء الفعل المأمور به، كما أن المبادرة أحوط وأبرأ للذمة،
وأدل على الانقياد والطاعة.
خامسا: ثمرة الخلاف في هذه المسألة
يعود أثر الاختلاف في هذه القاعدة
الأصولية إلى كثير من القضايا الفقهية التي تنازع فيها الفقهاء قديما وحديثا، من
ذلك:
اختلافهم في كون فريضة الحج على الفور
أو على التراخي، لقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
} [69]، فاقتضت الآية أن الحج
مأمور به[70]، فذهب الشافعي إلى من
أخرها وهو متمكن من أدائها ليس بعاص، بناء على أن الأمر لا يقتضي الفور، بينما ذهب
أبو حنيفة إلى أنه عاص[71]،
بناء على القول بأن الأمر يقتضي الفور، ونقل عن مالك أن الحج للفور[72]،
ونسب إليه القولين ابن عطية في "المحرر الوجيز"[73]، ثم
اختلف المالكية بعده إلى رأيين حسب القاعدة.
ومن فروعها أيضا، ما إذا قيل لشخص بع
هذه السلعة، فقبضها الشخص وأخر بيعها مع القدرة عليه، فتلفت، فإن قلنا بأن الأمر
لا يفيد الفور، فلا ضمان عليه، وإن قلنا بأنه يفيد الفور، ضمن لتقصيره[74].
[7] - وهي قريبة من عبارة الجويني في البرهان 1/169،
حيث قال عن الصيغة المقترحة: «الصيغة تقتضي الامتثال، ولا يتعين لها وقت».
[9] - أنظر: إيضاح المحصول ص: 210، والبحر المحيط
2/396، الوجيز في أصول الفقه للكراماستي يوسف بن حسين (ت906هـ)، ص:126.
[11] - أنظر: التقريب والإرشاد 2/208، والتلخيص
1/321، و البرهان 1/168، وشرح اللمع 1/234، وشرح الورقات للفزاري الشافعي ص: 141،
والتمهيد لابن الحاجب ص: 94، وبيان المختصر 2/40، ورفع الحاجب 2/518، وشرح العضد
ص: 168-169، والإبهاج في شرح المنهاج 2/58، والبحر المحيط 2/396 و 400، والتحبير
شرح التحرير 5/2224، والوجيز في أصول الفقه للكراماستي ص: 125، وإرشاد الفحول
1/462.
[33] - أنظر: أنظر أصول الشاشي (ت344هـ) وبهامشه عمدة
الحواشي للكنكوهي ص: 84، وأصول السرخسي 1/26، و الميزان في أصول الفقه ص: 67،
والوجيز في أصول الفقه ص: 125.
[36] - إحكام الفصول ص: 212، وإيضاح المحصول ص:211،
وشرح التنقيح ص: 105، ونشر البنود على مراقي السعود 1/151.
[49] - البرهان 1/168 وقال عن هذا المذهب: «وهذا سرف
عظيم في حكم الوقف»، وانظر: إيضاح المحصول ص: 211، والإبهاج 2/59-60، والبحر
المحيط 2/399.
[51] - إحكام الفصول للباجي ص:212، وإيضاح المحصول ص:
211، ونسبه القرافي في شرح التنقيح ص: 105 إلى مالك رحمه الله. قال ابن القصار
المالكي في " المقدمة في الأصول" ص: 132: «ليس عند مالك رحمه الله في
ذلك نص، ولكن مذهبه يدل على أنها على الفور، لأن الحج عنده على الفور».
[52] - المسودة ص: 24، وهو مذهب أبي حامد المروزي
وأبو بكر الصيرفي من الشافعية كما في شرح اللمع 1/234.
[61] -
كالفراء في العدة 1/282، والسمعاني في قواطع الأدلة 1/129، والمازري في
إيضاح المحصول ص:211، وابن قدامة المقدسي في روضة الناظر وجنة المناظر ص: 105،
والآمدي في الإحكام 2/203، وابن الحاجب في التمهيد ص:94، والقرافي في شرح التنقيح
ص:105، والزركشي في البحر المحيط 2/396، وابن تيمية الجد في المسودة ص: 24، وأبو
الحسن المزدوي في التحبير 5/2225، وابن النجار في شرح الكوكب المنير 3/48.
[64] - قال السمرقندي ( حنفي ): «ذهب بعض أصحابنا
وجماعة من المتكلمين أنه يقتضي تعجيل الفعل المأمور به، ولا يجوز تأخيره عن أول
أوقات الإمكان» الميزان في أصول الفقه ص:67، وانظر الوجيز في أصول الفقه
للكراماستي ص: 126.
[68] - أنظر أدلة القائلين بالفور في : العدة 1/283
وما بعدها، وروضة الناظر ص: 105 وما بعدها، و التحبير شرح التحرير 5/2227 وما
بعدها.
جزاكم الله خيرا
ردحذفاستفدت كثيرا من البحث وترتيبه، وأفادني في بحثي، نفع الله بكم