إعلان أفقي

الأربعاء، 17 يوليو 2013

تاريخ علم أصول الفقه إلى حدود القرن الخامس الهجري

Posted by mounir  |  at  يوليو 17, 2013


      عندما نتحدث عن علم أصول الفقه منذ العصر النبوي، فإننا لا نعني بذلك تدوينه على شكل فصول وأبواب ومسائل، وإنما نقصد أن الرعيل الأول كان لهم من الإمكانات اللغوية والذهنية ما يستطيعون به استخراج الأحكام، وتمييز الحلال عن الحرام. أما علم الأصول كما هو معروف اليوم فإنه لم ينضج ويستقيم عوده إلا بعد عصر الصحابة والتابعين. وفي هذا المعنى يصب قول ابن خلدون: «واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فعنهم أخذ معظمها»[1].

المطلب الأول: أصول الفقه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم

يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله عزوجل، وقد عني عليه السلام ببيان مراد الله من خلقه، حيث كان يرجع إلى الوحي في كل ما يعرض له من أمور وأقضية، ومع أن هذا العصر هو عصر نزول الوحي إلا أنه عليه السلام كان يوجه أصحابه إلى الاجتهاد ويحضهم عليه كما في حديث عمرو ابن العاص أنه سمع رسول الله يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»[2].
وقد اجتهد الصحابة في عهد النبوة في حضرته عليه السلام حينا، وفي غيابهم عنه أحيانا أخرى، من ذلك اجتهاد عمرو بن العاص[3] رضي الله عنه في الصلاة بدون الاغتسال من الجنابة لخوف الضرر[4]، وقصة صلاة العصر في بني قريظة[5]، واجتهاد سعد بن معاذ[6] في بني قريظة وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم له قائلا:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات»[7]،وغير ذلك من الأمثلة التي تدل على وقوع الاجتهاد من الصحابة في عهد الرسالة - وهو موضوع خلاف بين الأصوليين[8] - قال ابن القيم:« وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم»[9].
وقد اختلف الأصوليون في إمكان حصول الاجتهاد منه عليه السلام من جهة، وفي وقوعه من جهة أخرى[10]، حيث ذهب جمهور الأصوليين إلى جواز ذلك[11]، بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم القياس في العديد من المسائل التي عرضت عليه، منها حديث ابن عباس[12] رضي الله عنهما قال: جاء رجل[13] إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأقضيه عنها، قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال: نعم، قال:« فدين الله أحق أن يقضى»[14]، ومنها حديث عمر رضي الله عنه حينما سأل عن قبلة الصائم فقال له عليه السلام:«أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم»[15]، قال إمام الحرمين تعليقا على هذا الحديث:«فكان ذلك منه قياسا للقبلة على المضمضة»[16]. ومنها قوله عليه السلام للمرأة التي سألته قضاء الحج عن أمها: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»[17]، قال القرافي: «وهذا هو عين القياس»[18]. إلى غير ذلك من الأخبار التي يطول تتبعها والتي تجدها مبتوتة في كتب الأصول[19].
وبالجملة فإن الناظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، يجد فيها العديد من الإشارات الظاهرة، والرموز الخفية، التي تدل على استخدام الكثير من القواعد الأصولية. قال الزركشي مبينا أصالة علم أصول الفقه واتصاله سنده بالعهد النبوي:«وقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه إليه، ونبه أرباب اللسان عليه، فصدر في الصدر الأول منه جملة سنية، ورموز خفية»[20].

المطلب الثاني: أصول الفقه في عهد الصحابة والتابعين

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي من السماء، واجه الصحابة رضوان الله عليهم نوازل وأقضية لم تكن معهودة في عصر النبوة، فعملوا على إيجاد حكم الله في كل نازلة عن طريق عرضها على الكتاب والسنة، فإن لم يجدوا بدلوا وسعهم في استنباط الأحكام عن طريق الاجتهاد بكل أنواعه، حيث يبحثون عن الأشباه والنظائر، ويقيسون الأحكام بعضها على بعض بما تجمع لديهم من علم بأسرار اللغة العربية ومقاصد الشريعة الإسلامية.
قال الإمام أبو المعالي: «ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي جرت فيها فتاوى علماء الصحابة وأقضيتهم، تزيد على المنصوصات زيادة لا يحصرها عد، ولا يحويها حد، فإنهم كانوا قايسين في قريب من مائة سنة، والوقائع تترى، والنفوس إلى البحث طُلعة، وما سكتوا عن واقعة صائرين إلى أنه لا نص فيها، والآيات والأخبار المشتملة على الأحكام نصا وظاهرا، بالإضافة إلى الأقضية والفتاوى كغرفة من بحر لا ينزف»[21].
وقال ابن القيم: «وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بالنظير»[22].
ومن أمثلة الاجتهاد في هذا العصر تقديم الصحابة للصديق في الخلافة وقولهم:« رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا» فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة[23]، وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه، وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد[24]، وكذلك منع عمر وعلي من بيع أمهات الأولاد برأيهما، وكذلك تسوية الصديق بين الناس في العطاء برأيه، وتفضيل عمر برأيه[25]، وكذلك إلحاق عمر حد الخمر بحد القذف برأيه وأقره الصحابة[26] وغير ذلك مما اجتهدوا فيه برأيهم حيث لم يجدوا نصا في المسألة.
ثم انقرض عصر الصحابة بعد أن خلفوا وراءهم إرثا علميا ومعرفيا كبيرا أخذه عنهم التابعون، فتلقى أهل كل مصر ما تجمع لديهم من أقوال الصحابة الذين رحلوا إليهم، واعتمدوا على ما حفظوه من فتاويهم وأقضيتهم، ثم نهج التابعون منهج الصحابة في النظر والاجتهاد وزادوا على ما خلفوه أصلا جديدا هو: الأخذ بفتوى الصحابي، والذي سيعتبر فيما بعدا أصلا ثابتا من الأصول المعتبرة في علم أصول الفقه.
قال إمام الحرمين: «فقد تبين بمجموع ما ذكرناه إجماع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم، على العمل بالرأي والنظر في مواقع الظن، ومن أنصف من نفسه، لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى والأقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض والاستنباط، ولا تعلق لها بالنصوص والظواهر»[27].
وقال ابن خلدون:« ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسن’ فإذا هم يقيسون الأشبه منها بالأشباه، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم، وتسليم بعضهم لبعض في ذلك، فإن كثيرا من الواقعات بعده –صلوات الله وسلامه عليه- لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسموها بما ثبت، وألحقوها بما نص عليه، بشروط في ذلك الإلحاق...»[28].
والجدير بالذكر، أن الصحابة ومن بعدهم كان علمهم بأصول الفقه سليقة لهم، أي مركوزا في طبيعتهم، كما كان علم العربية من نحو وتصريف وبيان خليقة، أي مركوزا في طبائع العرب فطرة فطرهم الله عليها، والألقاب كاسم المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول وغير ذلك اصطلاحات وضعها أئمة النحو، وكذلك وضع أئمة الأصول الذين صنفوا فيه اسم المنطوق، والمفهوم، والفحوى، والمخالفة، والعام، والخاص، والمطلق، والمقيد، وغير ذلك[29].
ويمكن تلخيص الملامح الرئيسة لعلم أصول الفقه في هذه الفترة فيما يلي:
أولا: زادت مصادر التشريع مصدرا آخر وهو فتاوى الصحابي.
ثانيا: تميز مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي.
ثالثا: لم تكن هناك قواعد واضحة معلومة للمجتهدين، بل كان الغالب هو اتباع أحد الصحابة، واتخاذ أقوالهم مستندا للفتوى[30].

المطلب الثالث: عهد الأئمة الأربعة

بعد بداية القرن الهجري الثاني، وبعد تدوين العلوم بمختلف أنواعها. انتشرت موجة واسعة من الاجتهاد، بعد أن اتسعت رقعة البلاد الإسلامية، ودخل في هذا الدين جموع غفيرة من مختلف الأجناس و الأعراف والأديان، وتعايش المسلمون مع بعضهم عربا وعجما، كما تعايشوا مع غير المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم، مما أدى إلى إثراء الفكر الإسلامي، خاصة وأن المجتمعات الإسلامية قد واجهت أقضية لم تكن معروفة في صدر الإسلام، الشيء الذي أدى إلى تحريك عجلة الاجتهاد، حيث اتسع النشاط الفقهي، وتشعبت الأقوال في الاجتهاد بالرأي، خاصة في مجال الفقه الافتراضي، مما جعل صياغة القواعد الأصولية وتدوينها عملا ضروريا لتقنين آلة الاجتهاد. فظهرت قواعد لم تكن معلومة من قبل، وصيغت لبعض الأصول التي كانت مستعملة فيما قبل مصطلحات خاصة أطلقها عليها أهل كل مذهب، وتنازعوا فيما بينهم في العمل بها أو ردها، ومن مظاهر أخذ الأئمة المجتهدين بالرأي في هذا العصر، قولهم بالاستحسان، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع وغيرها.
واستمرت هذه الثورة العلمية التي عمت أرجاء العالم الإسلامي، إلى أن تمخض عنها تدوين أول مصنف مستقل في علم أصول الفقه، والذي اعتبر فيما بعد أصل الأصول في هذا الفن، ألا وهو "كتاب الرسالة" للإمام الشافعي.

المطلب الرابع: عهد الإمام الشافعي

هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي. وُلد في غزة عام 150هـ. وتوفي بمصر سنة 204 هـ[31]، أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة التي انتشر أتباعها في مختلف بقاع العالم.
وكان الشافعي كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع النظير[32]، ومن مناقبه أنه أول من صنف كتابا مستقلا في علم أصول الفقه[33]، فقد أخرج البيهقي[34] في "مناقب الشافعي"[35] والخطيب البغدادي[36] في "تاريخ بغداد"[37] بسنديهما أن عبد الرحمان بن مهدي (ت198 هـ) كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب "الرسالة".
وكتاب الرسالة ألفه الشافعي مرتين: مرة ببغداد وتسمى "الرسالة القديمة" وأخرى بمصر وهي "الرسالة الجديدة" ولهذا تجدهم في كتب التراجم يسمونه بالكتاب القديم والكتاب الجديد[38]. قال الرازي:«اعلم أن الشافعي صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما خرج إلى مصر أعاد تصنيف كتاب"الرسالة" وفي كل واحد منهما علم كثير»[39]، وأيا ما كان فقد ذهبت الرسالة القديمة، وليس في أيدي الناس الآن إلا الرسالة الجديدة[40].
وقد اهتم العلماء قديما وحديثا بالرسالة، وأفردوها بالشرح والدراسة، ومن أهم شراح هذا السفر نجد: أبو بكر محمد بن عبد الله الشيباني الجوزقي النيسابوري المتوفى سنة 388، والإمام محمد بن علي القفال الكبير الشاشي المتوفى سنة 365، وأبو الوليد حسان بن محمد النيسابوري القرشي الأموي المتوفى سنة 349، وأبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي المتوفى سنة 330، وأبو زيد عبد الرحمان الجزولي، ويوسف بن عمر، وجمال الدين الأقفهي، وابن الفاكهاني، وأبو القاسم بن عيسى بن ناجي[41]، وأبو محمد الجويني الإمام والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438هـ[42].
قال الرازي مبينا أن الشافعي هو أول من ألف كتابا مستقلا في أصول الفقه: «كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل الفقه، ويعترضون ويستدلون، ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجع إليه في معرفة الدلائل الشرعية، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع»[43].
وسبق الشافعي في تدوين علم أصول الفقه لا يقتصر على كتاب "الرسالة" فقط، بل تضم إليه مؤلفات أخرى كلها تأصل لهذا العلم الجليل. قال الزركشي: «الشافعي رضي الله عنه أول من صنف في علم أصول الفقه، صنف فيه كتاب"الرسالة"، وكتاب"أحكام القرآن"، و"اختلاف الحديث"، و"إبطال الاستحسان"، و كتاب "جماع العلم"، وكتاب "القياس"»[44].

المطلب الخامس: عهد الإمام الباقلاني[45]

يعتبر عهد أبي بكر الباقلاني من أبرز محطات علم أصول الفقه، فمع هذا الإمام الكبير بدأ هذا العلم ينضج ويختمر، وكتابه المشهور "التقريب والإرشاد"[46] خير شاهد على عظم قدره وكبير شأنه في هذا الفن، حيث تنافس الأئمة على دراسته والاستفادة منه، فأكثروا من النقل عنه والإحالة عليه.حتى قال عنه الزركشي: « وكتاب "التقريب والإرشاد" للقاضي أبي بكر، وهو أجل كتاب صنف في هذا العلم مطلقا»[47]، ونحوه قول السبكي: «وهو من أجل كتب الأصول»[48].
ومن مظاهر عناية العلماء بهذا الكتاب أن إمام الحرمين قد لخصه في كتابه المسمى ب"التلخيص في أصول الفقه" والذي أملاه بمكة[49]. وقد كان في اختصاره له مقرا لأقواله قلما يخالفه في رأي كسائر المبتدئين في متابعة من يشتغلون بكتبهم[50].
وقد استفاد منه العديد من الأئمة أثناء تأليفهم في أصول الفقه، حيث نقلوا عنه مذاهب الأصوليين، وبينوا رأيه في الكثير من المسائل، بل لا تكاد تجد مسألة إلا والقاضي حاضر فيها ذكره، مثبت فيها رأيه، ويبقى أهم من أفاد من أبي بكر الباقلاني إمامنا الجويني رحمه الله، فكما أنه لخص "التقريب والإرشاد" في سفر مستقل، فإننا نجده أيضا يستفيد منه في كتابه "البرهان" في كثير من المواضع، حيث ينقل رأيه في كل مسألة تقريبا دون أن يشير إلى كتاب "التقريب والإرشاد" إلا في موضعين: الأول منهما في معرض رده على القاضي في إبطال قياس الشبه حيث قال : « وعضد القاضي في "التقريب" هذه الطريقة بمناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرائض »[51]، والثاني عند كلامه عن الفنون التي يحتاجها المفتي إذا أراد أن يقلد غيره[52].
كما اعتمد الكثير من الأئمة على الجويني كواسطة لنقل آراء أبي بكر بن الطيب، واعتمد آخرون في ذلك على كتاب "التقريب والإرشاد" نفسه بالإضافة إلى كتب إمام الحرمين، كما هو الحال بالنسبة إلى الزركشي الذي يذكر كتاب الباقلاني من جملة المصادر التي اعتمدها في تصنيف "البحر المحيط"[53]، وكذا السبكي في "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب"[54].
وقد ذكر محقق كتاب "التقريب والإرشاد" الدكتور عبد الحميد بن علي أبو زنيد في مقدمة تحقيقه[55] طائفة من أسماء العلماء مع مصنفاتهم التي نقلوا فيها عن الباقلاني فتجدهم تارة يشيرون إلى هذا السفر وتارة أخرى لا يشرون إليه.
ويعتبر كتاب أبي بكر المشار إليه آنفا، أحد أعمدة أصول الفقه التي عليها مدار التصنيف، حيث استوعب مؤلفه مسائل أصول الفقه، ولذلك يعتبر محطة بارزة من محطات هذا الفن، وصفحة مشرقة من صفحات هذا العلم الجليل، بل إن هذا الإمام هو أحد المؤسسين الأوائل[56] الذين وضعوا تآليف مستقلة عن أصل الأصول "الرسالة"، في الوقت الذي انشغل فيه الناس بكتاب الشافعي شرحا وتعليق ودراسة. قال الزركشي: «وجاء من بعده –أي الشافعي- فبينوا وأوضحوا وبسطوا وشرحوا، حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات، وفكَّا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال.
واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لاحب نارهم، فحرروا وقرروا وصوروا، فجزاهم الله خير الجزاء»[57]. 

المطلب السادس: عهد إمام الحرمين الجويني[58]

لا يمكن الحديث عن أصول الفقه دون التعرض لهذه المرحلة البارزة من تاريخ هذا العلم الجليل، فالجويني علم من أعلامه، وإمام جليل القدر، عظيم الشأن، يشهد بذلك عناية الأئمة بآرائه والاستدلال بها، فلا تكاد تجد كتابا في أصول الفقه إلا ويذكر أقواله، وينقل عباراته، حتى صار البعض يكتفي عند ذكره بإطلاق بلقب "الإمام" كما هو صنيع ابن الحاجب في "المنتهى" و"المختصر"، والنووي في "المجموع".
وأهمية هذا الإمام إنما تنبعث مما قدمه من خدمات جليلة لعلم أصول الفقه، حيث إنه ألف فيه المؤلفات العظيمة القدر، الغزيرة الفوائد، من ذلك كتابه "التلخيص في أصول الفقه" والذي هو بمثابة مختصر لكتاب الباقلاني "التقريب والإرشاد"، لكنه لم يكتفي فيه بمجرد التلخيص، بل "زاد من قبل نفسه أشياء على طريقة المتقدمين في الاختصار"[59]. وقد اكتسب هذا الكتاب مكانة كبيرة عند علماء الأصول رغم أنه من الكتب التي ألفها الجويني في بداية حياته العلمية حينما كان مجاورا بمكة، ومع ذلك فقد اعتمده العلماء وعدوه من أفضل الكتب المصنفة في هذا العلم على الإطلاق. قال السبكي:«والذي أقوله ليستفاد، أني على كثرة مطالعتي في الكتب الأصولية للمتقدمين والمتأخرين وتنقيبي عنها، على ثقة بأني لم كتابا أجل من هذا "التلخيص" لا لمتقدم ولا لمتأخر، ومن طالعه مع نظره إلى ما عداه من المصنفات، علم قدر هذا الكتاب»[60]، وتكفي هذه الشهادة الكبيرة من هذا الإمام الكبير للتدليل على المكانة العظيمة التي يتبوؤها كتاب "التلخيص" بين كتب أصول الفقه.
كما كتب رحمه الله "الورقات في أصول الفقه"، وهو متن صغير الحجم، عظيم الفائدة، لقي قبولا كبيرا بين العلماء وطلبة العلم، وقد اعتنى به الكثير من الأئمة شرحا وتعليقا وتدريسا.
ومن كتبه في الأصول أيضا نجد كتاب "التحفة" و"رسالة في التقليد والاجتهاد" و كتاب " مغيث الخلق في ترجيح القول الحق"، هذا بالإضافة إلى كتابه "الغياثي" فرغم كونه في الإمامة إلا أنه قد ضمنه مباحث أصولية كثيرة.
ويبقى أهم وأجل مصنفاته في هذا الفن كتاب "البرهان في أصول الفقه"، الذي يعتبر أحد أهم الكتب الأصولية على الإطلاق، وسأعرض له فيما يلي مبحثا مستقلا أبين فيه مكانته، وموضوعه، وقيمته العلمية.
كما تبرز أهمية الجويني من خلال ما خلفه من تلامذة كبار صاروا من بعده أئمة هذا الشأن، كالغزالي ( ت 505 هـ ) وحسبك وأبو القاسم الأنصاري ( ت 512 هـ ) وأبو الحسن علي الطبري الكياهراسي ( ت 504 هـ )[61] وغيرهم كثير.
وبخلاف الباقلاني، فإن إمام الحرمين قد عرف بإمامته أيضا في الفقه، وكتابه "نهاية المطلب في دراية المذهب" خير شاهد على ذلك، فقد حظي باهتمام كبير من طرف الأئمة والفقهاء، حتى قال عنه ابن عساكر:«وأتي فيه من البحث والتقرير ... والتدقيق والتحقيق بما شفى الغليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة «...» فما صنف في الإسلام قبله مثله، ولا اتفق لأحد ما اتفق له»[62]. كما عده النووي في "المجموع"[63] أحد الأربعة أمهات الكتب في الفقه الشافعي، حيث إنه لا تكاد تخلوا مسألة من المسائل التي عرض لها النووي في المجموع إلا و إمامنا حاضر فيها برأيه.
وبعد أن رأينا مكانة هذا الإمام في علم الفقه وأصوله، سأشرع في المبحث القادم في التعريف بواحد من أهم المصنفات التي اشتهر بها الإمام، والمتمثل في " البرهان في أصول الفقه". 


[1]  - مقدمة ابن خلدون ص: 425-426.
[2]  - رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم: 7352، ومسلم: كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم 1716.
[3]  - عمرو بن العاص بن وائل ( 43 هـ): داهية قريش، ورجل العالم، ومن يضرب به المثل في الفطنة، والدهاء والحزم. هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل سنة ثمان، مرافقا لخالد بن الوليد وحاجب الكعبة، ففرح النبي عليه السلام بقدومهم. ( أنظر سير أعلام النبلاء 3/54 ).
[4]  - الحديث رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد أيتيمم ؟ برقم: 334، والدارقطني في سننه في كتاب الطهارة، باب: التيمم برقم: 669، ورواية أبي داود كالتالي: عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت أن أغتسل فأهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب ؟»، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما }، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا. قال الزيلعي في نصب الراية 1/157: « رواه الحاكم، وقال: على شرط الشيخين »، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/100: « صحيح، وعلقه البخاري ».
[5]  - الحديث رواه البخاري في كتاب المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريضة ...، برقم: 4119، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريضة »، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
[6]  - الصحابي الجليل سعد بن معاذ السيد الكبير الشهيد سنة 5 هـ، أبو عمرو الأنصاري، البدري، الذي اهتز عرش الرحمان لموته، ومناقبه مشهورة في الصحاح والسيرة ( انظر سير أعلام النبلاء 1/279 ).
[7]  - رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: إذا نزل العدو على حكم رجل، برقم 3043 و3804 و 4121 وغيرها، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد ... برقم: 1768.
[8]  - حيث اختلف الأئمة في الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز الاجتهاد في حقهم. أنظر التلخيص 3/395، والبرهان 2/887، وشرح اللمع 2/1089، والواضح في أصول الفقه لابن عقيل 5/ 391، والمنتهى  لابن الحاجب ص: 210، والإبهاج 3/253، وشرح العضد ص: 376، والمسودة ص: 339 وغيرها.
[9]  - إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/355.
[10]  - أنظر التلخيص 3/399 والبرهان 2/887، وشرح اللمع 2/1091، والواضح في أصول الفقه لابن عقيل 5/397، والمنتهى لابن الحاجب ص: 209، والإبهاج 3/246، وشرح العضد ص: 375، والمسودة ص: 335 وما بعدها.
[11]  - البحر المحيط 6/215.
[12]  - الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب، حبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، مسنده ألف وست مائة وستون حديثا، وله من ذلك في الصحيحين خمسة وسبعون، وتفر البخاري له بمائة وعشرين حديثا، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث ( أنظر سير أعلام النبلاء 3/331 وما بعدها 9.
[13]  - وفي رواية امرأة.
[14]  - رواه البخاري في كتاب: الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم 1953. ومسلم في كتاب الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، برقم: 1148.
[15]  - رواه أبو داود في كتاب الصيام، باب: القبلة للصائم، برقم: 2385، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 2/64-65.
[16]  - البرهان 1/502.
[17]  - رواه البخاري في كتاب: جزاء الصيد، باب: الحج والنذور عن الميت والرجل يحج عن المرأة، برقم 1852.
[18]  - شرح التنقيح ص: 300، وقال إمام الحرمين في التلخيص:«وهذا تشبيه منه للحج بالدين»3/211.
[19]  - أنظر التلخيص 3/210، و البرهان 1/502 وشرح التنقيح ص: 300،
[20]  - البحر المحيط 1/6.
[21]  - البرهان 2/499-500، وانظر التلخيص 3/188-189.
[22]  - إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية 2/354.
[23]  - إعلام الموقعين 2/370.
[24]  - رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب: جمع القرآن، برقم: 4986
[25]  - أخرج البخاري في كتاب المغازي، باب، برقم 4022، عن قيس قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم.
[26]  - أنظر هذه الأمثلة وغيرها في إعلام الموقعين 2/369 وما بعدها. كما تجدها في التلخيص 3/188 وما بعدها.
[27]  - البرهان 2/512.
[28]  - مقدمة ابن خلدون ص: 424.
[29]  - نشر البنود على مراقي السعود 1/14، بتصرف يسير.
[30]  - مرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول لموسى ابن محمد القرني ص: 21.
[31]  - له ترجمة في: طبقات الفقهاء الشافعية للشيرازي ص: 71، وتاريخ بغداد 2/392، وفيات الأعيان 4/163، العبر في خبر من غبر 1/269، وسير أعلام النبلاء 10/5، و الأعلام 6/26، وهدية العارفين 2/9، ومعجم المؤلفين 3/116، كما وضعت تصانيف مستقلة في ترجمته منها: مناقب الشافعي للبيهقي ( تحقيق السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث- القاهرة، ط 1: 1390 هـ - 1970 م)، ومناقب الإمام الشافعي للرازي( تحقيق د أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة ط1: 1406 هـ - 1986 م ) ، الشافعي: حياته وعصره-آراؤه وفقهه لأبي زهرة، دار الفكر العربي، طبعة 1978 م )، والإمام الشافعي: فقيه السنة الأكبر لعبد الغني الدقر( دار القلم –دمشق ط 6: 1417 هـ -1996 م ).
[32]  - وفيات الأعيان 4/163.
[33]  - أنظر: مناقب الشافعي للبيهقي 1/230، وتاريخ بغداد 2/404، والبرهان 2/874، ومناقب الإمام الشافعي للرازي ص: 156، والتمهيد للأسنوي ص: 45، ووفيات الأعيان 4/165، والإبهاج في شرح المنهاج 1/4، والبحر المحيط1/6-10، ومقدمة ابن خلدون ص: 426، ونشر البنود 1/14، و الشافعي لأبي زهرة ص: 184، ومرتقى الوصول إلى تاريخ علم الأصول ص: 23.
[34]  -  البيهقي ( 458 هـ) : الإمام العلم أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الشافعي الحافظ صاحب التصانيف، لزم الحاكم مدة، وأكثر عن أبي الحسن العلوي وهو أكبر شيوخه، بلغت تصانيفه ألف جزء، نفع الله بها المسلمين شرقا وغربا ( أنظر العبر في خبر من غبر 2/308 ).
[35]  - مناقب الشافعي للبيهقي 1/230.
[36]  -  أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (463 هـ) أحد الأئمة الأعلام، العلامة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت، من مصنفاته: تاريخ بغداد، والكفاية في علم الرواية، وكتاب شرف أصحاب الحديث، والجامع لأخلاق الراوي والسامع وغيرها ( أنظر تبيين كذب المفتري ص: 268، ومعجم الأدباء 1/384، وسير أعلام النبلاء 18/270 ).
[37]  - تاريخ بغداد 2/404.
[38]  - أنظر هدية العارفين 2/9.
[39]  - مناقب الإمام الشافعي للرازي ص: 157.
[40]  - مقدمة تحقيق كتاب الرسالة للشيخ أحمد شاكر 1/10.
[41]  - كشف الظنون 1/873.
[42]  - البحر المحيط 1/7، ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب 1/231.
[43]  - مناقب الإمام الشافعي للرازي ص: 157.
[44]  - البحر المحيط 1/10.
[45]  - سأفرد بحثا مستقلا في الفصل الثاني من هذا القسم لترجمة الباقلاني، لذلك لم أتعرض للتعريف به هنا.
[46]  - والذي بين أيدينا اليوم هو كتاب "التقريب والإرشاد الصغير"، والباقلاني له كتب أخرى في أصول الفقه منها التقريب والإرشاد الكبير،  والأوسط، والمقنع في أصول الفقه، وكتاب امالي إجماع أهل المدينة(أنظر ترتيب المدارك 7/69-70)، غير أن "التقريب والإرشاد الصغير" هو أكثرها شهرة وتداولا بين العلماء.
[47]  - البحر المحيط 1/8.
[48]  - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب 1/231.
[49]  - البحر المحيط 1/8.
[50]  - مقدمة تحقيق التقريب والإرشاد للدكتور عبد الحميد بن علي أبو زنيد 1/100.
[51]  - البرهان  في أصول الفقه 2/569.
[52]  - البرهان في أصول الفقه 2/877.
[53]  - البحر المحيط 1/8.
[54]  - رفع الحاجب 1/231.
[55]  - أنظر مقدمة تحقيق "التقريب والإرشاد" للدكتور عبد الحميد بن علي أبو زنيد 1/96.
[56]  - ولم نجزم بأنه أول من فعل ذلك لأنا وجدنا قبله من وضع كتابا مستقلا جامعا لمختلف أبواب أصول الفقه، وهو: أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص، في كتابه المسمى "الفصول" والذي وضعه كمقدمة لكتاب "أحكام القرآن". والذي يعنينا من هذا الكلام هو إبراز سبق الباقلاني في التصنيف على هذا الشكل الجامع لمختلف فنون أصول الفقه، وإلا فإن الخوض في الأولويات من باب الرجم بالغيب إلا أن تدل قرينة قطعية تبين صدق نسبة الأولية لشخص في التأليف، خاصة وأن الكثير من المؤلفات المتقدمة قد ضاعت في زمرة ما ضاع من تراث المسلمين.
[57]  - البحر المحيط 1/6.
[58]  -  كما هو الشأن بالنسبة للباقلاني فإنني سأفرد بحثا مستقلا في الفصل الثاني من هذا القسم لترجمة إمام الحرمين، لذلك لم أتعرض للتعريف به هنا.
[59]  - الإبهاج 2/109.
[60]  - الإبهاج 2/109.
[61]  - تاريخ ابن الوردي 1/371. وانظر باقي تلامذته في المبحث المتعلق بترجمته من هذه الدراسة.
[62]  - تبيين كذب المفتري لابن عساكر ص : 281-282.
[63]  -  المجموع شرح المهذب للنووي 1/29.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى