إعلان أفقي

الأربعاء، 19 يونيو 2013

الرد على رد بوهندي

Posted by mounir  |  at  يونيو 19, 2013


إن أهم ما يميز الساحة المغربية في الآونة الأخيرة هو ذلك الاستقطاب الواسع والصراع الجدلي البعيد عن العلمية والموضوعية في أغلب أحيانه بين الإسلاميين والعلمانيين، فصارت المدافعة والمواجهة واجبا شرعيا يحتم على من آتاه الله مسكة علم أو فهم أو إدراك أن يشارك في رد الهجمات الشرسة واللاعلمية التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون في المغرب.
ولعل المضحك المبكي في هذا الصراع أن نجد في بعض الأحيان من ينتسب ويوصف بكونه باحثا إسلامي أو أستاذا جامعيا في تخصص شرعي يقف جنبا إلى جنب مع صف العلمانيين، ويطرح نفس أفكارهم وأطروحاتهم، ويتكلم بلسانهم وينافح عن مواقفهم بل وينكر على من يدعو إلى أسلمة !؟ المجتمع المغربي من خلال أسلمة نخبه وخطاباته السياسية.
لا يكاد يختلف اثنان ممن ينتمون إلى الحركة الإسلامية ولهم غيرة وإرادة وطموح قويين إلى إرجاع الشريعة الإسلامية هي الحاكمة والمهيمنة على الحياة العامة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وطبيا وعلميا ... على أن خطاب الحركات الإسلامية قد تغير وصار يحاكي في كثير من الأحيان نظيره العلماني، ولعل مقال أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني قد أوفى ووفى بوصف حال الكثير من المنتسبين للعمل السياسي بل والدعوي أحيانا في المغرب، بدء من ترك شعارهم الخالد "الإسلام هو الحل" إلى نبذ وتهميش والاستحياء في بعض الأحيان من الاستدلال بآية أو حديث أو قول عالم أو فقيه ناهيك عن استعمال ألفاظ فيها تحليل أو تحريم فلم نعد نفرق في السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين إسلامي وعلماني.
وبما أن مقال الدكتور الريسوني كان موضوعيا إلى أقصى الحدود باعتباره يصف واقعا ملموسا يتخبط فيه العمل الدعوي والسياسي الإسلامي، فإني لم أكن أتوقع ردودا كثيرة من المخالفين فكيف ممن يفترض أن يكونوا من الموافقين، فإذا بي أفاجأ بعلامة عصره وفريد زمانه المدعو بوهندي يكتب مقالا يرد فيه على الدكتور في زعمه ردا خلط فيه الكثير من المفاهيم، وأظهر بعض مكنوناته الخفية التي تدل على تأثر الرجل بالخطاب المتعلمن، حيث تكلم بلسان من يفصل الدين عن الحياة السياسية، فانهالت عليه التصفيقات والتبريكات وفرح العلمانيون بمقاله، ووصف من طرف بعض المعلقين بالإسلامي المتنور الذي يتحدث بمنطق الحداثة.
إن من الملاحظات الأولية على مقال "بوهندي" هو تشكيكه في نية الدكتور الريسوني ابتداء حينما قال :« للدكتور أحمد الريسوني الحق في أن يدعو إلى الحفاظ على المرجعية الإسلامية، والتنبيه من تراجعها وضعفها وربما تنحيها؛ باعتباره زعيم جماعة دينية، وناطقا باسم مؤسسة علمية دولية، وغيرها من المبررات الموضوعية الأخرى »، حيث صرح بأن الدافع الذي جعل الدكتور ينكر على الجماعات الإسلامية إغفالها لمرجعيتها الأساسية هو دوره ووظيفته فقط لا غيرته على الدين، مع ما في كلامه أيضا من مغالطة كبرى تدل على أنه لا يعرف الدكتور الريسوني معرفة جيدة حين وصف أحد أسباب مقالته تلك هو كونه زعيما لجماعة دينية، مع أن من يعرف الرجل يعي تمام الوعي تجرده وترفعه عن هذه الاعتبارات المذهبية وانطلاقه من قناعاته الشخصية التي سببت له كثيرا من المشاكل مع محبيه فضلا عن مناوئيه، وما ذلك إلا لكونه رجلا يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم.
ثم إن في هذا الاعتبار المذكور خلط كبير لا يقع فيه الفطن، إذ كيف ينتقد الدكتور جماعته- مع التحفظ على كلمة دينية - هذا الانتقاد الأبوي الشديد لولا موضوعيته وصدق سريرته وإرادته إصلاح وتقويم ما يمكن اعتباره اعوجاجا في العمل السياسي لبعض الأطر ليس داخل الجماعة فقط وإنما خارجها أيضا.
وقال: « لكن ما يطلبه من رجال السياسة، وإن كانوا من الإسلاميين، ربما لا يصلح لهم، إلا بمقدار. وينبغي أن يتراجع هذا المقدار، ويضعف شيئا فشيئا، إلى حد التلاشي والزوال»، أليس كلامه هذا هو نفسه كلام العلمانيين الذين يدعون إلى حصر الخطاب الإسلامي واندحاره وتلاشيه، ألا يعلم أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بصفته إماما للمسلمين كان موجها بالأساس إلى عقيدتهم باعتبارها المرجع الأساس في سكناتهم وحركاتهم، ألم يكن صلى الله عليه وسلم حاكما عاما للمسلمين حينما خطب في حجة الوداع قائلا: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ...، فكيف إذن تطلب من أتباعه ومحبيه والسالكين لطريقته المقتفين أثره صلى الله عليه وسلم أن يتلاشى خطابهم الديني إلى درجة الزوال، وكيف نستطيع حينها أن نميز بين الإسلامي وغيره .
ثم قال صاحبنا: « إن ما تعاقد عليه الناس مع هؤلاء المنتخبين من رجال السياسة، وإن كانوا من الإسلاميين، هو تدبير وإصلاح أحوال بلادهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية وغيرها؛ ... وليس البحث في المرجعيات والاستدلال على المقولات والتبريرات بالأحاديث والقواعد والآيات.»، ما هذه العلمانية الفاضحة المتغلغلة في فكر الرجل إلى حد التصريح بما يخجل من إعلانه بعض رموز العلمانية في المغرب، ثم ما هذا التناقض الصارخ بين أول ووسط وآخر كلامه، فلئن كان أفراد المجتمع قد تعاقدوا مع منتخبيهم على إصلاح ما أفسده القوم سياسيا واقتصاديا ودينيا كما قال أليس في إرجاع الناس إلى مرجعيتهم إصلاح لدينهم وآخرتهم التي تعاقدوا معهم عليها، ثم ما سبب نجاح التيارات الإسلامية في المغرب وغيره، أليست السآمة والملل الذي لحق المجتمع من التغريب الممنهج الذي تعرضوا له طيلة عقود من الزمن أسفر عن علمنة مختلف القطاعات الحيوية بدء بالحكم ومرورا بالإعلام وانتهاء بالمناهج التعليمية والجامعات والمؤسسات الشرعية، فجاءت هذه الحركات الإسلامية لإحياء سنة سيد المرسلين وربط الناس بربهم وإحياء عقيدة الإيمان في نفوسهم وتصحيح المفاهيم الخاطئة لديهم ومن ذلك بعث المصطلحات والمرجعيات الإسلامية عن طريق تسمية الأشياء بمسمياتها فموازين كما ذكر الدكتور حرام لما فيه من نشر للرذيلة والفاحشة في المجتمع أولا وقبل كل شيء مع ما فيه من إهدار للمال العام أيضا، فخصلة واحدة من هذه الخصال تكفي لجعله محرما شرعا فكيف بها إذا اجتمعت ...
ثم قال أيضا واصفا المرجعية التي يدعو إليها الدكتور والمتمثلة في القرآن والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من السلف أنها مرجعية سلفية لا تستطيع مواكبة العصر والآفاق الجديدة التي وصل إليها الإنسان في زعمه، بدءا من الشاي والقهوة والمطبعة وكل وسائل التواصل والاتصال، وإلى التأمين والأبناك والمشاركة في الانتخابات والدخول إلى البرلمان والحكومة وما إليها كما صرح بذلك، فيا ليت شعري من يصدق مثل هذه الترهات، أليست هذه عبارات من لم يطلع على مقال أو كتاب في العلوم الشرعية، ألم ينظر إلى الفتاوى والدراسات التي لا تنحصر في كل نازلة، ألا يعلم الرجل أن علماء العصر الحديث قد أجابوا على مختلف الوقائع معتمدين على الأصول المعتبرة شرعا وإن اختلفوا في تكييفها وتحقيق مناطاتها، فالمشكل فيمن لا يجيد قراءة وفهم الخطاب الديني ولا يبحث عن أجوبة ومقالات ودراسات العلماء على النوازل، لا في العلماء أنفسهم، وهذه الأمثلة التي ضربها بالضبط وإن كان في بعضها نوعا من الاستهزاء – الشاي والقهوة – إلا أن فقهاء الأمة قد أجابوا عنها وعن غيرها، ووضعوا البدائل والحلول، ولكن القوم لا يقرؤون وإذا قرؤوا  لا يفهمون.
وفي سياق المغالطات الفكرية والتاريخية والعلمية التي أوردها في مقالته تلك قوله: « ولعل رغبة بعض السلفيين الجديدة في المشاركة في الأحزاب والانتخابات واحدة من الأمثلة على ذلك، بعد أن كان كل شيء من ذلك حراما إلى وقت قريب»، وهذا يدل على أن الرجل ليس من المتتبعين للشأن الإسلامي داخل المغرب وخارجه، فإن كان إطلاقه هذا يعم المغرب وغيره فإن الخطأ لا يغتفر من أستاذ باحث، وإن كان المقصود النموذج المغربي فهذا أيضا يدل على قلة اطلاعه في هذا المجال، إذ أنه وجه سهامه إلى نموذج اجتهادي واحد حرم ولا يزال يحرم المشاركة السياسية باعتبارها لا تستند إلى المرجعية الإسلامية – وهم مأجورون على اجتهادهم أجرا أو أجرين– في حين أغفل النماذج السلفية الأخرى التي باركت العمل السياسي منذ الوهلة الأولى وإن لم تشارك فيه إلا ناذرا عبر أفراد يحملون نفس المنهج انخرطوا مع الحركات الإسلامية التي تبنت هذه الطريقة في الإصلاح.
وفي ختام هذا الرد الموجز الذي سيعقبه رد آخر عن بعض المغالطات العلمية التي أوردها الرجل عن الربا ووجه تحريمه، أريد أن أشير إلى أن خطاب العلمانيين ينبع من مشكاة واحدة، فظاهره الود والاحترام وباطنه من قبله التشكيك والتجهيل، ومن ذلك ما اتهم به بوهندي الدكتور أحمد الريسوني من كونه يعيش بعيدا عن هموم الناس حين قال: « ربما يكون للشيخ الفاضل مورد رزق محترم أغناه عن الاقتراض والذهاب إلى البنوك، لكن هذا الأمر ليس متاحا لجميع الناس، وليس كثير منهم مستعدا أن يقضي عمره في آداء كراء شهري للسكن لا يستفيد منه أبدا، لا هو ولا أولاده»، ونحن جميعا نعرف خبايا هذا النوع من الخطاب الذي يحاول توسيع الهوة بين الأمة وعلمائها عن طريق إظهارهم في صورة أرباب الأموال الذين ينظرون إلى الأمة من برج عاجي ويفتون الناس بغير فقه للواقع – زعموا – والحال أنه العلماء أمثال الدكتور ومن يعرفه أكثر من يحمل هم الأمة من شقيها الديني والدنيوي، ولا شك أن من هذا واقعه يحمل عبئا أكبر ممن يحمل هم الناس الدنيوي فقط.
كما أن عدم قدرة الكثيرين على أداء كراء شهري تقربا إلى الله ونيلا لمرضاته وسعيهم لامتلاك بيت عن طريق القرض الربوي لا يجعل هذا التصرف مقبولا منهم شرعا، وإلا فإننا بهذا المنطق سنضع حدا لمفهوم الابتلاء والحلال والحرام والثواب والعقاب، ولن نبحث عن الحلول والبدائل الشرعية مما سيوقف عجلة الاجتهاد والتجديد، إذ أن العديد من شبابنا اليوم لا يستطيع مقاومة الشهوات فينغمس في المحرمات، لكونه لا يستطيع التعفف عن الزنا حتى يؤتيه الله من فضله فيتزوج، والكثيرون لا يصبرون على الفقر وقلة ذات اليد فيلجؤون إلى السرقة والرشوة وهكذا، فالشرع لا يقاس بمدى قدرة الناس على التزام أحكامه، وإنما يدرك مراد الله من فهم خطابه المبين في نصوص القرآن والسنة بغرض تبليغه للناس قصد التزامه وتطبيقه.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى