إعلان أفقي

الأحد، 1 سبتمبر 2013

القول في الاستدلال ( المصلحة المرسلة )

Posted by mounir  |  at  سبتمبر 01, 2013


أولا: تعريف الاستدلال عموما

وضع العلماء عدة تعريفات للاستدلال من ذلك:
1 – تعريف إمام الحرمين، قال:« هو معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي، من غير وجدان أصل متفق عليه، والتعليل المنصوب جار فيه»[1].
2 – تعريف أبي الوليد الباجي، قال:« هو التفكر في حال المنظور فيه طلبا للعلم بما هو نظر فيه، أو لغلبة الظن، إن كان مما طريقه غلبة الظن»[2].
3 – تعريف الآمدي:« دليل لا يكون نصا، ولا إجماعا، ولا قياسا»[3].

ثانيا: المراد بالاستدلال عند الأصوليين

بما أن الاستدلال هو طلب الدليل[4]، فإنه يطلق ويراد به عدة معاني ليست كلهما من محل النزاع في هذه المسألة، قال الآمدي مبينا المقصود بالاستدلال هنا:«وأما في اصطلاح الفقهاء، فإنه – أي الاستدلال – يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل، وسواء كان الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا أو غيره.
ويطلق على نوع خاص من أنواع الأدلة، وهذا هو المطلوب بيانه ها هنا، وهو عبارة عن دليل لا يكون نصا، ولا إجماعا، ولا قياسا»[5].
فللاستدلال إذن إطلاقان: عام، وخاص، أما العام فيراد به طلب الدليل من أحد الأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وأما الخاص فيراد به طلب الدليل من غير هذه الأدلة الأربعة، أي من الأدلة التبعية أو المختلف فيها، كالاستصحاب، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والمصالح المرسلة[6].
هذا عند الأصوليين عامة، أما عند الإمامين فلهم إطلاق خاص بهم نتعرف عليه في المبحث التالي:

ثالثا: المراد بالاستدلال عند الإمامين

عرفنا فيما سبق معنى الاستدلال عند الأصوليين، وبقي لنا أن نعرف المقصود من الاستدلال عند إمامينا: الباقلاني، والجويني.
أما فيما يتعلق بالقاضي: فإن مما استفدناه من محاضرات شيخنا الدكتور عبد الحميد العلمي، أنه – أي أبو بكر – يطلق الاستدلال ويريد به المصلحة المرسلة.، قلت: ولم أر من الأصوليين من نبه إلى هذا، وكلام القاضي في "التلخيص" يدل على ما ذكر شخي والله أعلم.
أما الجويني: فقد وافق إطلاقه فيها إطلاق القاضي، فسمى المصلحة المرسلة أيضا استدلالا، قال الزركشي:«وأطلق إمام الحرمين[7]، وابن السمعاني[8] عليه[9] اسم الاستدلال».
فكلاهما يعني بالاستدلال نفس المعنى، وإنما فرقنا بينهما في العرض لاختلاف مصدري هذه المعلومات، والله الموقف.
إذن فموضوع الخلاف هنا في هذه المسألة هو : المصلحة المرسلة.

رابعا: إطلاقات الأصوليين على المصلحة المرسلة

لقد تعددت عبارات الأصوليين التي يطلقونها على المصلحة المرسلة، يجمع ذلك قول الزركشي: « ويلقب – أي المناسب – بالاستدلال المرسل، ولهذا سميت مرسلة أي لم تعتبر ولم تلغ، وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليه اسم الاستدلال، وعبر الخوارزمي في "الكافي" بالاستصلاح[10]»[11]. قلت: وسماه البيضاوي: المناسب المرسل[12].
فمجموع ما تحصل لدينا من المعاني الآن خمسة، هي: الاستدلال، المصلحة المرسلة، المناسب، المناسب المرسل، والاستصلاح.
ويجب التنبيه على أن من المواطن التي يتحدث فيها الأصوليون عن المصلحة المرسلة: باب القياس، وبالضبط في مسلك المناسبة من المسالك التي تستنبط بها علية الأصل.

خامسا: معنى المصلحة المرسلة

المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار ثلاثة أنواع: الأول ما شهد الشرع باعتبارها وهو القياس، و الثاني: ما شهد الشرع ببطلانها وعدم اعتبارها، كتعيين الصوم في كفارة وطأ رمضان على الموسر كالملك ونحوه فلغو.
والثالث: ما لم يشهد له الشرع بالاعتبار ولا بالإلغاء فهو المصلحة المرسلة[13].

سادسا: مذاهب العلماء في الأخذ بالمصلحة المرسلة

أ – رأي الباقلاني ( الجمهور )
ذهب جمهور الأصوليين[14]، ومنهم القاضي أبو بكر الباقلاني إلى منع التمسك بالمصلحة المرسلة مطلقا، قال الإمام:« فذهب القاضي، وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد الاستدلال، وحصر المعنى فيما يستند إلى أصل»[15].
فأصحاب هذا القول، يرون أن كل مصلحة لا يوجد لها أصل – كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس - يمكن أن ترد إليه فهي ملغاة غير معتبرة.
ب – مذهب الإمام (الجواز بقيد)
ذهب الإمام إلى عدم جواز الاسترسال في الأخذ بالمصلحة المرسلة، وشدد القول على من أطلق العمل بها بدون قيود معتبرة.
ورأى رحمه الله أنه يجوز العمل بها في الحالتين التاليتين:
الأولى: أن تكون مستنبطة من أصول الشريعة موافقة لها، مع عدم مناقضتها لأصل آخر منها، حيث قال:«إذا وجدنا أصلا استنبطنا منه معنى مناسبا للحكم، فيكفي فيه ألا يناقضه أصل من أصول الشريعة، ويكفي في الضبط فيه إسناده إلى أصل متفق الحكم»[16]. وقال:«ثم الاستدلال المقبول هو المعنى المناسب الذي لا يخالف مقتضاه أصلا من أصول الشريعة»[17].
وقال في "الغياثي":«ولسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بوجوه من المصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب»[18].
الثانية: يأخذ بالمصالح وإن لم تستند إلى حكم متفق عليه في الأصل، على شرط قربها من معاني الأصول الثابتة، ومشابهتها لها، وقد نسب هذا القول إلى الشافعي، ومعظم أصحاب أبي حنيفة[19]، واختاره قائلا:« ... لم نجد مرجعا نقر عنده إلا التقريب الذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه»[20].
وقد جمع هاتين الحالتين بقوله:«لو صح التمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة، لكان العاقل ذو الرأي، العالم بوجوه الإيالات، إذا راجع المفتين في حادثة، فأعلموه أنها ليست منصوصة في كتاب ولا سنة، ولا أصل لها يضاهيها، لساغ والحالة هذه أن يعمل العاقل بالأصوب عنده، والأليق بطرق الاستصلاح.
وهذا مركب صعب، لا يجترئ عليه متدين، ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء، وإحكام الحكماء. ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك.
ثم وجوه الرأي تختلف بالأصقاع والبقاع والأوقات، ولو كان الحكم ما ترشد إليه العقول في طرق الاستصواب، ومسالكه تختلف- للزم أن تختلف الأحكام باختلاف الأسباب التي ذكرناها.
ثم عقول العقلاء قد تختلف وتتباين على النقائض والأضداد في المظنونات، ولا يلزم مثل ذلك فيما له أصل أو تقريب، فإن شوف الناظرين إلى الأصول الموجودة. فإذا رمقوها واتخذوها معتبرهم، لم يتباعد أصلا اختلافهم»[21].
وقال أيضا:«فإن قيل: قد أثبتم الاستدلال، ولم تقبلوه على الاسترسال، وزعمتم أن المقبول منه ما يلتفت إلى الأصول ويضاهي معانيها»[22].
وخلاصة مذهب الجويني إذن: هو جواز تعليق الأحكام بمصالح تكون شبيهة بالمصالح المعتبرة شرعا، أو مستندة إلى الأحكام الثابتة الأصول.
ومذهبه هذا قريب من ما ذهب إليه الشافعي، غير أن الشافعي لا يرى ضرورة استنادها إلى أصل، فكل ما يشترطه هو قرب هذه المصالح من المعاني المعهودة المألوفة في الشرع[23].
وبعد أن بينا حقيقة مذهب الإمام في المصلحة المرسلة، ارتأيت أن أعقد بعض الفقرات، أتحدث فيها عن بعض الاعتراضات التي أوردها بعض العلماء على ما قرره في "البرهان" نظريا، بما جاء في كتابه "الغياثي" تطبيقيا، فأقول:
على الرغم من أن إمامنا قد شدد القول على الآخذين بالمصالح، الغالين في تقرير الأحكام الشرعية بمقتضاها، حيث قال عمن جوز الازدياد في التعزيرات على الحدود والمبالغة في العقوبات من أجل المصلحة المرجوة في إقامة السياسات:« و هذا الفن قد يستهين به الأغبياء ، وهو على الحقيقة تسبب إلى مضادة ما ابتعث به سيد الأنبياء .
        و على الجملة من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء و مقتضى رأي الحكماء فقد رد الشريعة ، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة »[24]، مؤكدا منهجه هذا حين شدد النكير على يحيى بن يحيى الليثي في فتواه للأمير الذي واقع في نهار رمضان بأن عليه صيام شهرين، مراعيا المصلحة في أن الأمير لا يردعه إلا الصوم لأن العتق سهل عليه، وفي متناول يديه، فقال:« إن صح هذا من معتز إلى العلماء فقد كذب على دين الله و افترى ، وظلم نفسه واعتدى ... لو أراد مسلكا رادعا، وقولا وازعا لذكر ما يتعرض لصاحب الواقعة من سخط الله و أليم عقابه – إلى أن قال – ولو ذهبنا نكذب الملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم، لغيرنا دين الله تعالى بالرأي، ثم لم نثق بتحصيل صلاح و تحقيق نجاح»[25].
وعلى الرغم من كل ذلك، نجد أنه لا ينكر التعلق بالمصلحة مطلقا، بل يقيدها بالقيود التي سبق ذكرها في تقرير مذهبه، بل إننا نجده من الناحية التطبيقية، قد بالغ في إعمال هذا الأصل في كتابه "الغياثي" أكثر من المالكية أنفسهم الذين ينسب إليهم المبالغة في الأخذ بها. حتى قال عنه القرافي:« هذا إمام الحرمين، قيم مذهبهم، وصاحب "نهاية مطلبهم"، واضع كتابه "الغياثي"، ضمنه أمورا من المصالح المرسلة التي لم نجد لها في الشرع أصلا يشهد بخصوصها، بل بجنسها، وهذا هو المصلحة المرسلة.
فمن ذلك أنه قال: إذا ضاق بيت المال، يجوز أن يجعل على الزرع والثمار مال دار مستقر، يجبى على الدوام، يستعين به الإمام على حماية الإسلام، من غير أن يتوسع فيهن ببنائه القصور والزخارف والشهوات[26].
وهذا ليس له أصل في الشرع، بل النصوص دالة على نفيه، كقوله عليه السلام:«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»[27]،... وقال عليه السلام:«ليس في المال حق سوى الزكاة»[28].
وقد ترك هذه الأصول كلها، لأجل هذه المناسبة التي لم يتقدم في الإسلام اعتبارها ...»[29].
واسترسل القرافي في ضرب الأمثلة على مبالغة الإمام في الأخذ بالمصلحة المرسلة التي لا تشهد لها الأصول، بل قد تعارضها في بعض الأحيان، إلى أن قال: « ثم فرع في "الغياثي" على هذا الباب، أشياء كثيرة، لم توجد للمالكية، ولو سئلوا عنها ما جسروا على كثير منها»[30].
ومن الأمثلة الكثيرة على إعمال إمام الحرمين لهذا الأصل بكثرة في "الغياثي"، سواء منها ما خالف فيه أصلا كما قرره القرافي في الأمثلة التي ذكرها في "نفائس الأصول" وأشرت إلى واحد منها، أو ما لم يرد فيه حكم قاطع من شريعة المصطفى عليه السلام ما يلي:
        و جوب النظر للمسلمين في جلب النفع والدفع في النصب و الخلع[31]، ومراعاة المصالح في الخروج على الإمام الفاجر[32]، وذهابه إلى عدم خلع مرتكب الكبيرة إذا كان مثابرا على رعاية المصالح[33]، والمقارنة بين المصالح و المفاسد في خلع الإمام نفسه[34]، وتقديم المفضول على الفاضل إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك[35]، وابتغاء مصلحة الخلق في عدم جواز نصب إمامين[36] ابتداء ثم في الجواز عند الضرورة[37]، كما يراعي ذلك في ردع المبتدعة[38]، ومهادنة الكفار في حالة ضعف المسلمين مراعاة لمصلحتهم[39] .
        ولو ذهبنا نستقصي أمثلة ذلك في بطون كتبه لوجدناها بأضعاف ما ذكرنا و لود، ولكن حسبنا الإشارة، فهي غنية عن نقل كل عبارة، ثم الاستدلال على ذلك بنص من قول الإمام، حين ربط مدافعة الإمام الفاسق بالموازنة بين المصالح و المفاسد في ذلك، فما غلب منهما رجح جانبه، حيث قال :«وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية و إراقة دماء، ومصادمة أحوال جمة الأهوال، وإهلاك أنفس ونزف أموال فالوجه أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به، مما يفرض وقوعه في محاولة دفعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم الدفع، فيجب احتمال المتوقع لدفع البلاء الناجز.
        وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون على ما الخلق مدفوعون إليه، فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع »[40].
ج – مذهب الجواز مطلقا
وهو المذهب المنسوب إلى الإمام مالك رضي الله عنه[41]، والشافعي في قوله القديم[42]، وحكي عن أبي حنيفة[43]. واختاره الرازي[44].
وقد اشتهرت نسبة هذا المذهب إلى الإمام مالك، حتى صارت من خصائصه عند البعض، وقد رد القرافي هذه الدعوى قائلا:« ليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها، فإنهم يعلقون، ويفرقون في صور النقوض وغيرها، ولا يطالبون أنفسهم بأصل يشهد لذلك الفارق بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو عين المصلحة المرسلة.
ثم إن الشافعية يدعون أنهم أبعد الناس عنها، وأقربهم إلى مراعاة الأصول والنصوص، وقد أخذوا من المصلحة المرسلة أوفى نصيب وحظ، حتى لم يجاوز فيها – وذكر أمثلة من أئمة الشافعية في أخذهم بالمصالح المرسلة كالجويني والماوردي ، ثم قال – فلو قيل للشافعية: هم أهل المصالح المرسلة، دون غيرهم، لكان ذلك هو الصواب والإنصاف »[45]، وقال في الذخيرة:« وعند التحقيق، هي عامة في المذاهب»[46].
د – مذهب الغزالي[47] والبيضاوي[48]
وخلاصته كما ذكر السبكي[49] والزركشي[50] والشوكاني[51] تبعا لهما: إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت، وإن فات أحد هذه القيود الثلاثة لم تعتبر، والضرورية ما تكون من الضروريات الخمس، أعني: الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسب، والقطعية التي تجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة تعم جميع المسلمين.
ومثل الغزالي للمصلحة المستجمعة للشرائط بما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى المسلمين، وقطعنا بأنا لو امتنعنا عن التترس لعدمونا، واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه، فيجوز والحالة هذه رميه.
فحفظ جماعة المسلمين بقتل من تترسوا به من المؤمنين أقرب إلى مقصود الشرع، لأنا نقطع أن الشارع يقصد تقليل القتل، كما يقصد حسمه عند الإمكان، فحيث لم نقدر على الحسم، فقد قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا على مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع، لا بدليل واحد، بل بأدلة خارجة، ولكن تحصيل هذا المقصود بهذه الطريقة، وهي قتل من لم يذنب، لم يشهد له أصل معين، فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة: وهي كونها ضرورية، كلية، قطعية، فخرج بالكلية ما إذا أشرف جماعة في سفينة على الغرق، ولو غرق بعضهم لنجوا، فلا يجوز تغريق البعض.
وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عند عدم رمي الترس.
وبالضرورية ما إذا تترسوا في قلعة بمسلم، فلا يحل رمي الترس، إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة.
قال الغزالي:«فبهذه الشروط التي ذكرناها، يجوز اتباع المصالح، وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه، بل من استصلح فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا»[52].
قال القرطبي معلقا على مذهب الغزالي:«هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها»[53].
هـ - المذهب الخامس
وهو المنسوب إلى الشافعي رحمه الله، وقد سبقت الإشارة إليه عند حديثنا عن رأي الإمام في هذه المسألة، وخلاصته: أن الشافعي لا يشترط استناد المصلحة إلى حكم متفق عليه في أصل، ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط، وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقا، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول، قارة في الشريعة، بمعنى أن تكون ملائمة لأصل كلي من أصول الشريعة، أو لأصل جزئي، فيجوز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا[54].

سابعا: الموازنة بين المذاهب

من خلال النظر في أدلة الفريقين يتبين أن رأي العاملين بهذه المصلحة القائلين بها هو أقرب هذه المذاهب وأرجحها، لما يفضي إليه من شمولية الشريعة للأقضية والنوازل التي تعرض للناس في مختلف مناحي الحياة، وقد سبق النقل عن القرافي أن المذاهب كلها مشتركة في العمل بالمصلحة المرسلة من الناحية التطبيقية وإن اختلفوا فيها نظريا. قال الزركشي:«والمشهور اختصاص المالكية بها، وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك»[55].

ثامنا: ثمرة الخلاف في هذه المسألة

لهذه القاعدة أثر كبير في اختلاف الفقهاء قديما وحديثا، خاصة في النوازل والمستجدات التي لا نجد فيها أجوبة للعلماء معدة، ومن ذلك[56]:
اختلاف العلماء في جواز قتل الجماعة بالواحد، بناء على ما رواه البخاري عن ابن عمر[57] رضي الله عنهما قال:« قتل غلام غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به»[58].
ففي قتل الجماعة بالواحد مذاهب:
الأول: الجواز وإليه ذهب جماهير فقهاء الأمصار، وهو مروي عن علي رضي الله عنه وغيره.
الثاني: للشافعي وجماعة ورواية عن مالك أن الورثة يختارون واحدا من الجماعة، وفي رواية عن مالك يقرع بينهم، فمن خرجت عليه القرعة قتل، ويلزم الباقون الحصة من الدية.
الثالث: لربيعة[59] وداود[60] أنه لا قصاص على الجماعة، بل الدية رعاية للمماثلة، ولا وجه لتخصيص بعضهم[61].
قال ابن رشد: «فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل، كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى:{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب}[62]، وإذا كان ذلك كذلك، فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل، بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة»[63].

تاسعا: مجالات تطبيقها في العصر الحديث

يمكن تطبيق مبدأ المصلحة المرسلة في عدة مجالات من مجالات الحياة الدنيوية، وذلك بإصدار القوانين اللازمة والتشريعات الضرورية لكثير من الوقائع، أو المستجدات التي لم يشهد لها دليل من الشرع يدل على الاعتبار أو الإلغاء، ولا يوجد لها نظير تقاس عليه، والتي تعود على أفراد المجتمع بالمنفعة المقصودة للشارع[64].
وسأضرب بعض الأمثلة على وجه الإجمال في مجالات متعددة، ثم أعقد بعد ذلك مثالين من قرارات المجمع الفقهي والتي اعتمد فيها على مراعاة المصلحة المرسلة في إصداره للحكم.
ففي مجال تشريع العمل: 1 – تحديد مدة لإنهاء خدمة العامل، 2- تأمين العامل بالإجازات العادية والطارئة، 3- حماية العامل من الفصل التعسفي، 4- تحديد الحد الأدنى للأجور، 5- تحديد ساعات العمل، 6- كفالة العامل عند عجزه، وكفالة أولاده من بعده، 7- تأمين العامل صحيا.
أما في مجال تنظيم السير، فنجد: 1- الإشارات الضوئية، 2- الشواخص المرورية ( وضع ما ينبه قائد السيارات على التضاريس والاعوجاجات الموجودة في الطريق السيار مثلا)، 3 – الفحص الدوري، 4- إنشاء الأنفاق والجسور، 5 – الكشف الميداني الدائم على الطرق.
وأما في مجال النشاط الزراعي: 1 – توجيه الإنتاج، 2- إنشاء صندوق يطلق عليه صندوق الأرض، 3- حماية المنتوجات من المنافسة الخارجية، 4 – إنشاء السدود، 5 – تقديم المعونات، 6- مكافأة أفضل مزارع، 7- الإعفاءات الجمركية، 8- التسعير.
وأما في مجال المستجدات الطبية: 1 – الطرق الحديثة للإنجاب، 2- الطب الشرعي، 3- التبرع بالدم، 4- التبرع بالأعضاء، 5- الجراحة التجميلية.
ومن المسائل المتفرقة: 1 – استخدام مكبرات الصوت، 2 – إلزام الناس بتسجيل عقودهم[65].
فهذه بعض النماذج للمجالات التي يمكن تطبيق مبدأ المصلحة المرسلة فيها، على أن هذه المجالات المذكورة ليست كلها محل وفاق وإجماع بين علماء العصر، ففي بعضها خلاف مشهور بينهم، لتزاحم المصالح والقواعد والاعتبارات فيها، كما هو الحال في: الطرق الحديثة للإنجاب كالتلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، فرغم أنها تجلب بعض المصالح المعتبرة كتكثير النسل، وتحقيق رغبة الأبوة والأمومة، إلا أنها تعرضها مصالح ومفاسد أكبر وأشد، كانكشاف المرأة على غير من يحل لها شرعا بدون ضرورة شرعية، ولما يتسرب إلى بعض أساليبه من الشك والارتياب في إمكانية اختلاط النطف خاصة إذا شاع وكثر استعماله، وعليه فقد قرر المجمع الفقهي في دورته السابعة، من يوم 11 إلى 16 ربيع الآخر سنة 1404 هـ، في قراره الخامس جواز ثلاث صور من صوره السبع التي ذكرها الأطباء المتخصصون، وحرمة الأربعة الأخرى[66].
ومن الأمثلة التي جعل المجمع الفقهي مستند حكمه فيها المصلحة المرسلة ما يلي:
المثال الأول: زراعة الأعضاء البشرية
اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم أخذ عضو إنسان حيا كان أو ميتا، وزرعها في أعضاء إنسان آخر مضطر إلى ذلك العضو، وقد قرر المجمع الفقهي في دورته الثامنة المنعقدة سنة1405 هـ -1985 م، أن أدلة القائلين بالجواز هي الراجحة لما فيه من مصالح كبيرة للمزروع فيه، ومما جاء في القرار:«إن أخذ عضو من جسم إنسان حي، وزرعه في جسم إنسان آخر، مضطر إليه لإنقاذ حياته، أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية، هو عمل جائز لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية، بالنسبة للمأخوذ منه، كما أن فيه مصلحة كبيرة، وإعانة خيرة للمزروع فيه، وهو عمل مشروع وحميد»[67].
المثال الثاني: تشريح جثت الموتى
قرر المجمع الفقهي في دورته العاشرة المنعقدة في سنة 1408 هـ - 1987 م، جواز تشريح جثت الموتى لبعض الأغراض المذكورة هناك: كالتحقيق في الدعاوى الجنائية، والتحقيق في بعض الأمراض، والتعليم وفق بعض الضوابط، وذلك :«بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثت الموتى، والتي يصير بها التشريح مصلحة، تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت»[68].


[1]  - البرهان 2/721، وهو من التعاريف التي أوردها السمعاني في القواطع 4/491.
[2]  - الحدود ص: 41.
[3]  - الإحكام للآمدي 4/145، وانظر جمع الجوامع ص: 107،  وإرشاد الفحول 2/970.
[4]  - الورقات ص: 7.
[5]  - الإحكام للآمدي 4/145.
[6]  - أنظر إرشاد الفحول 2/970.
[7]  - أنظر البرهان 2/721.
[8]  - أنظر قواطع الأدلة 4/491.
[9]  - أي على الدليل المسمى: المصالح المرسلة.
[10]  - وكذلك فعل الغزالي، أنظر المستصفى 1/284.
[11]  - البحر المحيط 6/76.
[12]  - أنظر الإبهاج 3/177.
[13]  - أنظر شرح التنقيح ص: 350، ورفع الحاجب 4/527، والتحبير 8/3834.
[14]  - أنظر  المنتهى ص: 208، والبحر المحيط 6/76، وإرشاد الفحول 2/990، وتحصيل المأمول  من علم الأصول للقنوجي ص: 347.
[15]  - البرهان 2721.
[16]  - البرهان 2/783.
[17]  - البرهان 2/784.
[18]  - الغياثي ص: 430.
[19]  - أنظر البرهان 2/721.
[20]  - البرهان 2/725.
[21]  - البرهان 2725-726.
[22]  - البرهان 2/732.
[23]  - أنظر البرهان 2/721، وقواطع الأدلة 4/492.
[24] - الغياثي ص : 220 .
[25] - الغياثي ص: 223-224 .
[26]  - أنظر الغياثي ص: 253-273.
[27]  -  أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 7/346، برقم 5105. وفي السنن الكبرى 6/166، برقم: 11545، في كتاب الغضب، باب: من غضب لوحا فأدخله في سفينة، أو بنى عليه جدارا. وصححه الألباني بمجموع طرقه في إرواء الغليل 5/279،  رقم: 1459.
[28]  - أخرجه ابن ماجة من حديث فاطمة بنت قيس، في كتاب الزكاة، باب: ما أدى زكاته فليس بكنز، برقم: 1789، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجة ص: 141:« ضعيف منكر».
[29]  - نفائس الأصول 9/4096 – 4097.
[30]  - نفائس الأصول 9/4098.
[31] - الغياثي ص : 115 .
[32] - الغياثي  ص: 116 .
[33] - الغياثي ص : 121 .
[34] - الغياثي ص : 129 .
[35] - الغياثي ص : 167-169 .
[36] - الغياثي ص : 175 .
[37] - الغياثي ص : 176 .
[38] - الغياثي ص : 187 .
[39] - الغياثي ص : 208 .
[40] - الغياثي ص : 109-110 .
[41]  - أنظر نسبة هذا القول إلى مالك في: البرهان 2/721، وقواطع الأدلة 4/492، وشفاء الغليل ص: 100، والمحصول 6/165، والمنتهى ص: 208، وشرح التنقيح ص: 350، والمسودة ص: 300، والإبهاج 3/178، والبحر المحيط 6/76، والتحبير 8/3834، وإرشاد الفحول 2/990.
[42]  - أنظر المسودة ص: 300، وإرشاد الفحول 2/990.
[43]  - أنظر المسودة ص: 300، والتحبير 8/3834، وشرح الكوكب المنير 4/433-434.
[44]  - أنظر المحصول 6/167.
[45]  - نفائس الأصول 9/4095-4098.
[46]  - الذخيرة 1/129.
[47]  - أنظر المستصفى 1/284-315.
[48]  - أنظر الإبهاج 3/177.
[49]  - أنظر الإبهاج 3/178 وما بعدها.
[50]  - أنظر البحر المحيط 6/78 وما بعدها.
[51]  - أنظر إرشاد الفحول 2/991.
[52]  - المستصفى 1/315.
[53]  - البحر المحيط 6/80، وانظر إرشاد الفحول 2/993.
[54]  - أنظر البرهان 2/721، والبحر المحيط 6/77، وإرشاد الفحول 2/991.
[55]  - البحر المحيط 5/215.
[56]  - أنظر هذا المثال وغيره في كتاب: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء ص: 559 وما بعدها.
[57]  - عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل الصحابي الجليل، الإمام القدوة، شيخ الإسلام، أسلم وهو صغير ثم هاجر مع أبيه ولم يحتلم، واستصغر يوم أحد، وأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة، روى علما كثيرا نافعا، وروى عنه جم غفير من التابعين ( أنظر سير أعلام النبلاء 3/203 ).
[58]  - رواه البخاري، في كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم، برقم: 6896.
[59]  - ربيعة ( 136 هـ): الإمام مفتي المدينة وعالم الوقت، أبو عثمان، المشهور بربيعة الرأي، كان من أئمة الاجتهاد، وعليه تفقه الإمام مالك بن أنس ( أنظر سير أعلام النبلاء 6/89 ).
[60]  - داود بن علي بن خلف الظاهري (270 هـ): الإمام البحر، الحافظ، العلامة، عالم الوقت، أبو سليمان البغدادي، رئيس أهل الظاهر، بصير بالفقه، عالم بالقرآن، حافظ للأثر، رأس في معرفة الخلاف، من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وفيه دين متين ( أنظر سير أعلام النبلاء 13/97 ).
[61]  - أنظر سبل السلام 3/330-331.
[62]  - سورة البقرة آية 179.
[63]  - بداية المجتهد 4/2170-2171.
[64]  - أنظر المصلحة المرسلة وتطبيقاتها المعاصرة، للدكتور محمد عبد الله صالح، مجلة جامعة دمشق، العدد الأول، سنة 2000م، المجلد 16، ص:334.
[65]  - أنظر هذه الأمثلة بتفاصيلها في المرجع السابق المجلد 16 ص: 364-381.
[66]  - أنظر قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، الدورات من الأولى إلى السابعة عشر، -1977 – 2004م، ص: 148.
[67]  - المرجع السابق ص: 157-158.
[68]  - المرجع السابق ص: 211.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى