إعلان أفقي

الأحد، 1 سبتمبر 2013

من الاعتراضات الواردة على القياس: "النقض"

Posted by mounir  |  at  سبتمبر 01, 2013


أولا: صورة المسألة

قد تقدم القول في بعض المسالك التي تستنبط منها علل الأصول، وأوردنا طرفا من مذاهب العلماء وأقوالهم في المسائل التي تمت دراستها، ثم انعطف بنا الخلاف بين الإمامين إلى الحديث عن بعض الطرق الدالة على أن الوصف المذكور لا يكون علة، وهي تلك الاعتراضات التي قد يوردها المعترض على كلام المستدل ليبطل ما استدل به من قياس وأثبته من علة. ومن تلك الاعتراضات: النقض.

ثانيا: تعريفه

النقض في اللغة: ضد الإبرام، وناقضه في الشيء مناقضة ونِقاضا خالفه[1].
وفي الاصطلاح: عرفه الإمام بقوله: « تخلف الحكم في بعض الصور[2] مع وجود ما ادعاه المعلِّل علة»[3].
ومعنى ذلك: أن يدعي القائس ثبوت الحكم لثبوت علة من العلل، فتوجد العلة مع عدم الحكم، فيكون نقضا لها، ومبطلا لدعوى من ادعى أنها جالبة للحكم[4].

ثالثا: خطورته

إن الكلام في مسالك العلة والاعتراضات التي توجه للقياس من أكثر المباحث الأصولية خطورة وتعقيدا وصعوبة في التصور، نظرا لما فيها من تداخل بين علمي الأصول والجدل، ولصعوبة ضبط مصطلحات كل إمام على حدة، حيث تختلف عباراتهم، وتتفاوت مقاصدهم بالمسمى الواحد، خاصة عند الأصوليين القدماء.
ومن بين المباحث التي يصعب الخوض فيها، ما نحن الآن بصدده، وهو القول في الاعتراض على القياس بالنقض، حتى قال عنه السبكي:«الكلام في النقض من عظائم المشكلات أصولا وجدلا، ونحن نتوسط في تهذيبه فلا نسهب ولا نوجز، بل نأتي بالمقنع...» [5].وقال عنه أيضا أبو الحسن المرداوي:« واعلم أن "النقض" والكلام فيه من مشكلات علم الأصول والجدل، فلنقتصر على ما يتبين به المقصود»[6].
قلت: وكذلك سأفعل، فإنني نظرت في كتب أهل الأصول، فوجدت المذاهب فيه قد كثرت، والأقوال قد تفرعت، وكلما زاد الباحث تعمقا فيه، كلما تواردت الإشكالات، وتزايدت المقالات، فلنقتصر إذن على بيان موضع الإشكال، ببعض الأمثلة التي نراها مناسبة لهذا المقام، ثم ننعطف على مذاهب العلماء والأئمة فنذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر.

رابعا: مثال النقض في الفقه الإسلامي

أمثلة هذا النوع من الاعتراضات كثيرة تخرج على حد الحصر، ولذلك سأكتفي بأربعة منها، سعيا مني لتقريب صورة "النقض" الذي يتحدث عنه الأصوليون: 
1 – أن يستدل الحنفي على أن النجاسة تزول بغير الماء بأن الخل مزيل للعين والأثر، فوجب أن يطهر المحل النجس، أصل ذلك الماء.
فيقول المالكي: هذا ينتقض بالدهن، فإنه يزيل العين والأثر، ومع ذلك فلا يطهر عندكم المحل النجس[7].
2 – كما لو قال الشافعي في مسألة زكاة الحلي: مال غير نام، فلا تجب فيه الزكاة، كثياب البذلة. فقال المعترض: هذا ينتقض بالحلي المحظور، فإنه غير نام، ومع ذلك فإن الزكاة تجب فيه، فقال المستدل: لا أسلم أن الحلي المحظور غير نام. وإنما كان منع وجود العلة في صورة النقض دافعا للنقض، لأن النقض وجود العلة ولا حكم، فإذا لم توجد العلة في صورة النقض، فلا نقض[8].
3 – قولنا: الوقف عقد نقل، فوجب أن يفتقر للقبول قياسا على البيع، فيقول السائل: يشكل بالعتق، فنقول له: لا نسلم أن العتق نقل، بل هو إسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يفتقر للقبول بخلاف النقل والتمليك[9].
4 – أن يقال في تعليل وجوب تبييت النية في الصوم الواجب: صوم عَرِي أوله عن النية فلا يصح كالصلاة، فتنتقض العلة وهي: العري في أوله بصوم التطوع، فإنه يصح من غير تبييت[10].

خامسا: إطلاقاته

"تخصيص العلة" و"النقض" يطلقان ويراد بهما معنى واحد، فإن القائلين بتجويز تخصيص العلة لم يتجه عندهم القدح بالنقض فسموه تخصيصا، وأما من يراه قادحا فيسميه بالنقض[11].
قال السبكي: «وسموه – أي الحنفية – تخصيص العلة »[12].
 وعليه فلو قلت: «أمنع تخصيص العلة»، أو «أرى النقض قادحا في العلة»، فلن يختلف المعنى، وإن قلت: «أجوز تخصيص العلة»، أو: «النقض ليس مفسدا للعلة» كان ذلك منك قولا واحدا يحمل نفس المعنى.
قلت: و"تخصيص العلة" هو ما أطلقه الإمام في "التلخيص"[13].

سادسا: مذاهب العلماء في الاعتراض الوارد بالنقض

أ – رأي القاضي
ذهب القاضي إلى أن "النقض" يقدح في العلة مطلقا، سواء كانت هذه العلة منصوصة أو مستنبطة بالاجتهاد والرأي، وسواء كان الحكم لمانع أو لا لمانع، فقال:« والذي نختاره منع تخصيص العلل المستفادة والواردة شرعا»[14]. ومنع التخصيص كما سبق بيانه، يعني: المصير إلى أن العلة تبطل بالنقض، بدليل أنه قال قبل ذلك أثناء سرده للمذاهب في المسألة:« فما صار إليه الجمهور من القائسين منع التخصيص والمصير إلى أن الانتقاض آية بطلان العلة»[15]. فالقول بمنع التخصيص، والاعتراض على العلة بالنقض يحملان نفس المعنى.
و هذا المذهب اختاره كل من: أبو الحسين البصري[16]، والرازي[17]، والقاضي عبد الوهاب من المالكية[18]، ونسبه الجويني لأبي إسحاق الإسفراييني[19].
ب – مذهب الجويني
ذهب إمام الحرمين إلى التفصيل، وقد ذكر كل من السبكي[20] والزركشي[21] كلاما متشابها يبين مذهب الإمام، فآثرت أن أذكره لكونه يجمع شتات ما تفرق في "البرهان". حيث قالا: إن كانت العلة مستنبطة فإن اتجه فرق بين محل التعليل وبين صورة النقض بطلت عليته، لكون المذكور أولا جزء من العلة وليست علة تامة[22]. وإن لم يتجه فرق بينهما، فإن لم يكن الحكم مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمعي بطلت عليته أيضا، فإنه مناقض بها، وتارك للوفاء بحكم[23] العلة[24]. وإن طرد مسألة إجماعية لا فرق بينها وبين محل العلة فهذا موضع الأناة والاتئاد[25]، فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علة المعلل معللا بعلة معنوية جارية، فورودها ينقض العلة، من جهة أنها منعت العلة من الجريان وعارضها بفقه[26]، وهي آكد في الإبطال من المعارضة، فإن علة المعارضة لا تعرض لعلة المستدل وهذه متعرضة لها[27]. وإن كانت المسألة قاطعة للطرد ولا فرق، وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقهية، فهذا موضع التوقف[28].
هذا رأيه في المستنبطة، وحاصله: أن النقض قادح فيما إذا انقدح[29] فرق أو لم يكن الحكم في الصورة مجمعا عليه، أو لم يكن ثابتا بقطعي أو كان ثابتا بإجماع، وفي محل النقض معنى يعارض[30] العلة التي ذكرها المستدل ويمنعها من الجريان، وإن لم يكن كذلك فالتوقف.
وأما المنصوصة، فإن كان بنص ظاهر فيظهر بما أورده المعترض أن الشارع لم يرد التعليل، وإن ظهر ذلك من مقتضى لفظه، وتخصيص الظواهر ليس بدعا. وإن كان بنص لا يقبل التأويل، فإن عمم بصيغة لا يتطرق إليها تخصيص ببعض الصور التي تطرق العلة فيها، فلا مطمع في تخصيصها لقيام القطع على العلية وجريانها على الاطراد، ونص الشارع لا يصادَم، وإن نص الشارع على شيء وعلى تخصيصه في كونه علة لمسائل معدودة، فلا يمتنع ذلك، ولا معترض عليه تنصيصه وتخصيصه. ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا، ولم يجز في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يؤول، ولا على التخصيص بمواقع مخصوصة، فهذا عام ولا يمتنع فيه تخصيص العلة[31].
قال الإمام بعد أن أطال النفس في بيان مذهبه على الوجه الذي حررناه من كلام السبكي والزركشي: «وعلى الجملة، تخصيص المستنبط علة ينفصل عن تخصيص الشارع، فإنه ليس للمستنبط وضع العلل على اختياره، وإنما له النظر إلى درك ما يتخيله موضوعا بمسلك الظنون، وإذا لم تجر العلة عامة، فقد وهىَ[32] ظنه على ما فصلنا القول في ذلك»[33].
ج – باقي المذاهب
بالإضافة إلى ما ذكرنا، هناك مذاهب أخرى نص عليها الأئمة في مؤلفاتهم، حيث أوصلها السبكي إلى تسعة[34]، والزركشي إلى ثلاثة عشر[35]، والمرداوي الحنبلي إلى عشرة[36]، والشوكاني إلى خمسة عشر[37]. منها:
الثالث: لا يقدح مطلقا، بل يكون حجة في غير ما خص، وعليه أكثر أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد. وشهرته عن الحنفية أكثر إلا أنهم لم يسمحوا بتسميته نقضا، وسموه بتخصيص العلة[38].
الرابع: لا يقدح في المنصوصة مطلقا، ويقدح في المستنبطة، وقد نسبه الإمام إلى معظم الأصوليين فقال:«وذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة»[39].
الخامس: لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، فإن لم يكن مانع قدح مطلقا، وهو اختيار البيضاوي[40].
السادس: وانفرد به الغزالي، لخصه الشوكاني[41] بقوله: إن تخلف الحكم عن العلة له ثلاث صور:
أحدها: أن يعرض في جريان العلة ما يقتضي عدم اطرادها، فإنه يقدح.
الثانية: أن تنتفي العلة لا لخلل في نفسها، لكن لمعارضة علة أخرى، فهذه لا تقدح.
الثالثة: أن يختلف الحكم لا لخلل في ركن العلة، لكن لعدم مصادفتها محلها، أو شرطها، فلا يقدح[42].
وهناك مذاهب أخرى غير التي ذكرنا، تطلب من المصادر التي ذكرنا، فإني لم أقصد جمعها وتنقيحها، خشية الإطالة والخروج عن مقصود هذه الدراسة.


[1]  - أنظر لسان العرب 7/242، ومختار الصحاح ص: 676.
[2]  - قال الزركشي: «ولو في صورة واحدة» البحر المحيط 5/261.
[3]  - البرهان 2/634، وانظر الحدود لأبي الوليد الباجي ص: 76.
[4]  - الحدود ص:76-77.
[5]  - الإبهاج 3/85.
[6]  - التحبير 7/3214.
[7]  - الحدود ص: 77.
[8]  - الإحكام للآمدي 4/108.
[9]  - شرح تنقيح الفصول ص: 311.
[10]  - التحبير شرح التحرير 7/3214-3215.
[11]  - أنظر البحر المحيط 5/261 و268،  وعمدة الحواشي على أصول الشاشي ص: 221.
[12]  -  جمع الجوامع ص: 96، وانظر التحبير شرح التحرير 7/3213.
[13]  - أنظر التلخيص 3/271.
[14]  - التلخيص 3/274.
[15]  - التلخيص 3/271-272.
[16]  - أنظر المعتمد 2/835.
[17]  - أنظر المحصول 5/237.
[18]  - أنظر البحر المحيط 5/262.
[19]  - البرهان 2/648.
[20]  - أنظر الإبهاج 3/87.
[21]  - أنظر البحر المحيط 5/264-265.
[22]  - أنظر البرهان 2/637، فقرة 981.
[23]  - هكذا في الإبهاج والبحر المحيط، وعبارة الإمام في البرهان 2/640 فقرة 982 هي:«وتارك للوفاء بحق العلة»
[24]  - أنظر البرهان 2/638، فقرة 982.
[25]  -  هذه عبارة الإمام في البرهان 2/640، فقرة 983. والذي في البحر المحيط5/264: «فهو موضع التوقف»، وأما في الإبهاج 3/87:« فهذه موضع الآباء والأمناء» ولا شك أن هذا تصحيف وتحريف.
[26]  - في البحر المحيط : وعارضها تقصير. والمثبت من البرهان والإبهاج.
[27]  - أنظر البرهان 2/640 فقرة 983.
[28]  - أنظر البرهان 2/640، فقرة 983.
[29]  - تنبيه: في البحر المحيط 5/264 عبارة:« لم يقدح فرق»، وفي الإبهاج ما أثبته، وهو الصواب لموافقته في المعنى مذهب الإمام.
[30]  - في البحر: "يعني تعارض العلة"، والمثبت من الإبهاج ولعله الصواب.
[31]  - أنظر البرهان 2/648-649، فقرة: 997-998.
[32]  - وهيَ: أي ضعف : انظر مختار الصحاح ص: 738.
[33]  - البرهان 2/650.
[34]  - أنظر الإبهاج 3/85 وما بعدها.
[35]  - أنظر البحر المحيط 5/261 وما بعدها.
[36]  - أنظر التحبير 7/3215.
[37]  - أنظر إرشاد الفحول 2/229 وما بعدها.
[38]  - أنظر التحبير 7/3216.
[39]  - البرهان 2/634.
[40]  - أنظر الإبهاج 3/85-86.
[41]  - إرشاد الفحول 2/931.
[42]  - أنظر المستصفى 2/336 وما بعدها. وانظر حقيقة مذهبه في: الإبهاج 3/78 وما بعدها، والبحر المحيط 5/265 وما بعدها.

شارك المقال:
الكاتب

اسم الكاتب هنا ..

0 التعليقات:

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الرجوع للأعلى