أولا: صورة المسألة
إذا أجمع العلماء واتفقوا على حكم
معين، وخالفهم الأصولي الماهر المتصرف في الفقه، والحال أن هذا الأصولي وإن كان
عارفا بالفقه وأصوله فإنه لم يبلغ درجة المفتين والمجتهدين، لأن من شرط الاجتهاد
معرفة الأصول والفروع، فإن انفرد أحدهما يكون شرط الاجتهاد مفقودا[1]. فهل
يعد اتفاقهم هذا إجماعا شرعيا معتبرا، أم أننا نعتبر مخالفة هذا المخالف، وبالتالي
فلن يكون اتفاقهم هذا حجة ؟
وقد يفهم البعض أن قولهم:
"الأصولي الماهر المتصرف في الفقه" يعني أنه متبحر في الفروع الفقهية
حافظ لها، بينما مرادهم من هذه العبارة، أن هذا الأصولي وإن كان بارعا متبحرا في
علم الأصول فإنه مقلد في الفقه وإن كان ملما ببعض أطرافه[2]. ولو
لم أقف على من وقع منه هذا الخطأ لما نبهت عليه، ذلك أن محقق كتاب
"العدة" لأبي يعلى قد اختلط عليه الأمر حين قال معلقا على قول الإمام
حكاية عن الباقلاني:« إن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه يعتبر خلافه ووفاقه»[3]، قال
محقق "العدة": «قلت: وهذا لا خلاف في اعتبار قوله، لأنه أصولي فقيه،
وإنما الخلاف فيمن اتصف بأحدهما»[4]. قلت:
كيف لا يكون هناك خلاف في اعتبار قوله، وقد حكى الإمام بعده مباشرة أن معظم
الأصوليين على خلاف ما ذهب إليه القاضي كما سيأتي. والسبب في ما قاله المحقق والله
أعلم، هو أنه قد فهم من وصفهم لهذا الأصولي بكونه متصرفا في الفقه، أي عالما به
حافظا لفروعه، وليس هذا هو المراد من كلامهم كما علمتَ.
وهذه من المسائل الخطيرة التي يجب
تحرير القول فيها، لما لها من أثر بالغ في إمكانية تحقق الإجماع وتصور وقوعه، خاصة
في هذا العصر، لأن التفريق بين المجتهد وغيره في الخلاف قد ييسر إمكان حصول
الإجماع في الواقع.
ثانيا: تحرير محل النزاع
الخلاف هنا خاص بما إذا كان المخالف
متبحرا في فن من الفنون التي لها مدخل في الاجتهاد مع عدم بلوغه مراتب المجتهدين،
سواء أكان أصوليا أو فروعيا[5]. وإن
كان الإمام في هذه المسألة بالذات قد خص بالذكر الأصولي الماهر المتصرف في الفقه،
دون الفقيه الحافظ للفروع المتشبع بعلم أصول الفقه[6]. فإنه
قد أشار قبل ذلك بقليل بأن الخلاف يشمل الفئتين معا[7]،
وإنما اكتفى هنا بالأصولي لأن القاضي ذهب إلى اعتبار مخالفة هذا الأخير دون
الفروعي كما سيأتي.
وهذا بخلاف النزاع الحاصل بين الأصوليين في تخلف
المفتي البالغ مرتبة الاجتهاد[8].
ثالثا: أقوال العلماء في المسألة
أ – رأي القاضي أبي بكر الباقلاني
ذهب القاضي إلى أن انعقاد الإجماع يكون
بجملة العلماء، بحيث لا يختص بمن بلغ مرتبة الإفتاء دون غيرهم، فيعتبر بذلك خلاف
ووفاق الأصولي الماهر المتصرف في الفقه وأصوله،
فقال:« والذي يصح في ذلك عندنا، أن من لم ينتصب للفتوى، ولم يتصدى
لجمع مسائل الفروع، ولكن لما كان عالما بأصول الديانات، وأصول الفقه، وكان يعلم
مواقع الأدلة وموجبها، ووجه إفضائها إلى الأحكام الشرعية، وطرق الاستنباط، ووجوه
الترجيح عند تعارض الأدلة، وتقديم بعضها عند التباس الحال، فهو من أهل الإجماع،
ويعتبر خلافه ووفاقه»[9].
واختيار القاضي باعتبار مخالفة من كان
هذا حاله، إنما يختص بما إذا كان هذا المخالف أصوليا دون ما إذا كان فروعيا، حيث
قال: «فثبت لما قلناه: أن أرباب الأصول ممن يستضاء بآرائهم في طرق الاجتهاد
وتوصلهم إلى أحكام الفروع، مع ذهابهم عن بعض الفروع الحفظية[10]،
أقرب من توصل الفقهاء، مع ذهابهم عن أسرار الأصول وحقائق الاجتهاد»[11].
ونصر هذا القول الغزالي في
"المستصفى"، فقال: «والصحيح أن الأصولي العارف بمدارك الأحكام،
وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الأمر والنهي والعموم، وكيفية تفهم
النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع»[12].
والرازي في "المحصول" وقال: «أما الأصولي المتمكن من الاجتهاد، إذا لم
يكن حافظا للأحكام، فالحق أن خلافه معتبر خلافا لقوم»[13].
وفرق في الحكم بين الفقيه والأصولي، فقال في حق الفقيه:« ولا عبرة أيضا بالفقيه،
الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن متمكنا من الاجتهاد»[14]. كما
نسبه القرافي[15] وابن تيمية الجد[16] إلى
القاضي عبد الوهاب. واختاره الآمدي ولم يفرق في ذلك بين الفقيه والأصولي، ونسبه
إلى كافة القائلين بإدخال العوام في الإجماع وهو منهم[17]، حيث
قال: « وعلى هذا، فمن قال بإدخال العوام، في الإجماع قال بإدخال الفقيه الحافظ
لأحكام الفروع فيه وإن لم يكن أصوليا، وبإدخال الأصولي الذي ليس بفقيه بطريق
الأولى، لما بينهما وبين العامة من التفاوت في الأهلية وصحة النظر، هذا في
الأحكام، وهذا في الأصول»[18].
ب – مذهب الجويني ( الجمهور )
وعلى النقيض من ذلك، فإن أبا المعالي
يرى عدم اعتبار مخالفة من كان هذا حاله، لأنه ليس من المفتين، وليس هناك مرتبة بين
الاجتهاد والتقليد، ونسب هذا القول إلى معظم الأصوليين[19]، فقال رحمه الله
بعد أن حكى مذهب القاضي: «والذي ذهب إليه معظم الأصوليين خلاف ذلك، فإن من
وصفه القاضي ليس من المفتين، ومن لم يكن منهم ووقعت له واقعة، لزمه أن يستفتي
المفتين فيها، فهو إذن من المقلدين، ولا اعتبار بأقوالهم، فإنهم تابعون غير
متبوعين، وحملة الشريعة مفتوها والمُقَلَّدون فيها»[20].
وقال:« وعلى الجملة: إذا أجمع المفتون،
وسكت المتصرفون، فيبعد أن يتوقف انعقاد الإجماع على مراجعتهم، وأخذ رأيهم،...،
وإن أبدوا أقوالهم إبداء من يراغم الإجماع، فالإنكار يشتد عليهم.
والقول المغني في ذلك: أنه لا قول
لمن لم يبلغ مبلغ المجتهدين، وليس بين من يُقلِّد ويُقَلَّد مرتبة ثالثة»[21].
على أنه رحمه الله لا يستبعد إمكانية
الاستماع إلى آرائهم على سبيل الاستئناس والاسترشاد، حيث قال:«وإن فرض عدم الإنكار
عليهم إذا أبدوا وجها في التصرف – إن سلم ذلك – فهو محمول على إرشادهم وهدايتهم
إلى سواء السبيل، وإن أبدوا أقوالهم إبداء من يراغم الإجماع، فالإنكار يشتد عليهم»[22].
ويجب التنبيه على أن بعض الأصوليين قد
نسبوا إلى الإمام خلاف القول الذي أثبتناه، حيث جعلوا مذهبه موافقا لمذهب القاضي،
كالمرداوي الحنبلي في "التحبير شرح التحرير"، و تبعه على ذلك ابن النجار
في "شرح الكوكب المنير"، حيث قالا: « وقيل يعتبر قول الأصولي في الفقه،
دون الفروعي في الأصول، لأنه أقرب إلى مقصود الاجتهاد دون عكسه، اختاره الباقلاني،
قال أبو المعالي: وهو الحق»[23].
وكذلك فعل الشوكاني حيث قال: « وذهب القاضي إلى
أن خلافه – أي الأصولي الماهر المتصرف في الفقه - معتبر، قال الجويني: وهو
الحق»[24].
والصواب ما أثبتناه بنص الإمام من البرهان، والله أعلم.
والذي ظهر لي، أن سبب خطئ الشوكاني
راجع إلى أنه كثيرا ما ينقل عن الزركشي في "البحر المحيط"، وهذا الأخير
كثيرا ما توافق أقواله أقوال السبكي في "الإبهاج" وإن لم يصرح به من بين
مصادره التي ذكرها في مقدمة كتابه[25].
والمقصود أن عبارتا كل من السبكي و الزركشي كانتا متشابهتان، وذلك قولهما:« ذهب
القاضي إلى أن خلافه معتبر، قال الإمام: وهو الحق»[26].
وكما هو ملاحظ فإن عبارة الشوكاني شبيهة بعبارة هذين الإمامين، إلا أنه استبدل
عبارة "قال الإمام"، بقوله : " قال الجويني"، ومعلوم أن
السبكي في "جمع الجوامع" و"الإبهاج"، إذا أطلق لفظة
"الإمام" فإنه يقصد بذلك فخر الدين الرازي الإمام الشافعي صاحب
"المحصول" المتوفى سنة (606هـ)، وكذلك الأمر بالنسبة للزركشي في
"البحر المحيط" – أحيانا قليلة ولم أقف له على غير هذا الموضع، بينما
في الغالب يعني به الجويني – مع التنبيه على أن اصطلاح الزركشي يضبط من خلال
السياق، لأنه إذا أطلق عبارة "الإمام" فإنه يريد بها الإمام أبا المعالي
في جل المواضع التي وقفت عليها[27]، وقد
يطلقها ويريد بها من ذكرنا، خاصة في الموضع المشار إليه، فربما أن الشوكاني رحمه
الله اختلط عليه الأمر فاعتقد أن المقصود بالإمام هناك هو الجويني. خاصة وأن
الكثير من الأئمة الذين ألفوا في أصول الفقه، يطلقون على أبي المعالي لفظ
"الإمام"، كما هو صنيع ابن الحاجب في "المنتهى"
و"المختصر"، والسبكي في "رفع الحاجب"، والنووي في
"المجموع"، والشيخ محب الله بن عبد الشكور في "مسلم الثبوت"
وغيرهم. وبهذا يتبين لنا أهمية ضبط مصطلحات الأئمة والعلماء في مؤلفاتهم، خاصة وأن
بعضهم قد تختلف مصطلحاته من كتاب لآخر، كما رأينا بالنسبة للسبكي، فإنه يقصد
بالإمام: الرازي في "جمع الجوامع" و"الإبهاج"، بينما يعني به
الجويني في " رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب".
ثم إني رأيت أن هذا الأمر – وهو اختلاط
إطلاق عبارة الإمام على الشوكاني – أمر مستبعد لأن كلا من السبكي والزركشي قد ذكرا
بعد قولهما المشار إليه آنفا أن إمام الحرمين قد رد قول القاضي، فقالا:« واستبعد
إمام الحرمين مذهب القاضي»[28].
فكيف يليق أن يذكرا بأن الإمام قد وسم رأي القاضي بأنه هو الحق، ثم يذكرا بعد ذلك
أنه استبعد هذا المذهب، دون أن ينتبه الشوكاني رحمه الله لذلك، الشيء الذي جعلني
أذهب إلى أبعد من هذا، وهو أن يكون مصدر الأئمة الثلاثة واحد، وأن صاحب هذا المصدر
قد أطلق عبارة "الإمام" ففهم منها الشوكاني أن المقصود هو الجويني،
بينما فهم كل من السبكي والزركشي أن المقصود هو "الرازي" فتركا العبارة
على حالها خاصة وأن هذا النقل موافق لما قرره في "المحصول" كما سبقت
الإشارة إلى ذلك عند تقرير مذهب القاضي.
وقد يكون غير هذا وذاك، فالذي يعنينا من الكلام
أن الإمام الشوكاني رحمه الله قد سبقه قلمه في نسبة هذا القول إلى الإمام أبي
المعالي. والله أعلم.
أما عن خطئ كل من المرداوي وابن
النجار، فقد أشار محقق "التحبير شرح التحرير" أن المرداوي قد أخذ هذه
النسبة من البرماوي المتوفى سنة 831 هـ، وتبعه بعد ذلك صاحب "شرح الكوكب
المنير"[29]. ويبقى السؤال مطروحا عن سبب
ومصدر هذا الوهم بالنسبة للبرماوي ؟، والله أعلم.
ثالثا: الموازنة بين الرأيين
الراجح في المسألة هو قول الجمهور، لأن
من شرط حصول الإجماع أن يكون المجمعون قد استوفوا شروط الاجتهاد، وشرط الاجتهاد
معرفة الأصول والفروع كما سبق ذكر ذلك عند حديثنا عن صورة المسألة، فإذا تخلف واحد
منهما تخلف المشروط، ولا يجوز بحال اعتماد قول من لم يبلغ درجة الإفتاء في النوازل
والملمات، وإن أخذوا من أطراف بعض العلوم التي هي طريق الاجتهاد كالفقه والأصول
والحديث، ولا شك أن هذا لا يعني إهمال الاستئناس برأيهم، والنظر في قولهم على سبيل
الاستشارة والاستنارة لا غير، أما أن نعتد بقول المخالف منهم فلا، - كما نبه على
ذلك الإمام - لأن هذا سيوسع دائرة الاجتهاد، ويقلل من فرص حصول الإجماع إن تصورنا
حصوله في عصر تفرق فيه الأئمة وتباعدت بهم الأقطار. وإذا قلنا باعتبار قولهم، وعدم
انعقاد الإجماع إلا بموافقتهم، فإننا سنجعل أمر حصول الإجماع وإمكان تحققه أكثر
صعوبة واستحالة، لأن عدد المتشبعين بالفقه أو الأصول أو الحديث أو غيرها من علوم
الشرع لا ينحصر ولا ينضبط، فإذا تعذر إجماع المجتهدين الذين يمكن ضبط عددهم لمن جد
في طلبهم، وإن كنا نقول بصعوبة ذلك أيضا، فكيف بمن هم كعدد الرمال لا يحصون ولا
يعدون، بل إن كثيرا منهم مغمورين غير معروفين، فرب فقيه حافظ للفروع، أو أصولي
ضابط ملم متبحر في الأصول، أو عالم جهبذ في الحديث، تجده في خلاء أو فلاة لا يسمع
ذكره ولا يعرف خبره.
وقد ذكر الرازي في "المحصول"
تفصيلا دقيقا معتبرا في ذلك طبيعة الموضوع محل الاجتهاد، حيث يعتبر أن الأحق
بالإجماع هم أهل كل فن في الفن الذين هم مبرزون فيه، فقال:« المعتبر بالإجماع في
كل فن أهل الاجتهاد في ذلك الفن، وإن لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره.
مثلا: العبرة بالإجماع في مسائل الكلام
بالمتكلمين، وفي مسائل الفقه بالمتمكنين من الاجتهاد في مسائل الفقه، فلا عبرة
بالمتكلم في الفقه، ولا بالفقيه في الكلام، بل من يتمكن من الاجتهاد في الفرائض
دون المناسك، يعتبر وفاقه وخلافه في الفرائض دون المناسك»[30].
وهذا صحيح، لكن يجب تقييده بالمشورة
إذا كان محل الاجتهاد متعلقا بالعلم الذي هم مختصون فيه لا غير، لأن العالم
المتفنن في علم من العلوم دون غيره بمثابة من ينظر إلى العالم بعين واحدة، فهو وإن
كان بصيرا بفنه، فإنه لا يستطيع أن يتصور المسألة التي عرضت عليه بعيدا عن محيطها
وعلاقتها بباقي الفنون الأخرى، بخلاف من كان على علم وبصيرة بعلم مَن تلك وحاله
وغيره من العلوم الأخرى التي تصنع ملكة الاجتهاد، فإن نظره بلا شك سيكون أثقب،
ورأيه أسد. والله أعلم.
[5] - أنظر البرهان 1/439، والتلخيص 3/41، والمستصفى
1/182، ورفع الحاجب 2/173، وشرح العضد ص: 112، والبحر المحيط 4/466، والمسودة 226،
والإبهاج 2/385، والتحبير 4/1555، وشرح الكوكب المنير 2/225، وإرشاد الفحول 1/416،
وفواتح الرحموت 2/217.
[8] - أنظر الخلاف في هذه المسألة في البرهان
1/460،ـ والإشارة ص: 277، وإحكام الفصول ص: 467، والمعتمد 2/482، وشرح اللمع
2/704، وقواطع الأدلة 3/296، والمحصول 4/181، وشرح الكوكب المنير 2/230، وإرشاد
الفحول 1/417.
[17] - أنظر الإحكام 1/299، والجمهور لا يعتبرون
موافقة العوام أو مخالفتهم في انعقاد الإجماع. أنظر التلخيص 3/38، وقواطع الأدلة
3/239، وشرح اللمع 2/724، والإشارة ص: 276، وإحكام الفصول ص: 465، والمسودة ص: 226
وغيرهم.
[19] - كما نسبه إلى الأكثر أو الجمهور: ابن الحاجب
في "المنتهى" ص: 55، والسبكي في "الإبهاج" 2/385، والإيجي في
شرحه لمختصر ابن الحاجب ص: 112، والزركشي في "البحر المحيط" 4/466، وابن
تيمية في "المسودة" 226، وأبو الحسين المرداوي في "التحبير"
4/1556، و ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" 2/226، والشوكاني في
"إرشاد الفحول" 1/417.
0 التعليقات: